أي : أصله الذي يعول (١) عليه في الأحكام ، وإنما قال : (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) ، ولم يقل : أمّهات الكتاب لأن الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة ، وكلام الله تعالى واحد ، وقيل معناه : كل آية منهنّ أمّ الكتاب ، كما قال : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [المؤمنون : ٥٠] ، أي : كل واحد منهما آية ، (وَأُخَرُ) ، جمع أخرى ، ولم يصرفه لأنه معدول عن الآخر مثل : عمر وزفر ، (مُتَشابِهاتٌ) ، فإن قيل : كيف فرّق هاهنا بين المحكم والمتشابه وقد جعل الله كلّ القرآن محكما في مواضع أخر ، فقال : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) [هود : ١] ، وجعل كلّه متشابها [في موضع آخر](٢) فقال : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً) [الزمر : ٢٣]؟ قيل : حيث جعل الكل محكما أراد أنّ الكل حقّ ليس فيه عبث ولا هزل ، وحيث جعل الكلّ متشابها أراد أن بعضه يشبه بعضا في الحق والصدق (٣) والحسن ، وجعل بعضه هاهنا محكما وبعضه متشابها.
واختلف العلماء فيهما ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : المحكمات هنّ الآيات الثلاث في سورة الأنعام : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) [الأنعام : ١٥١] ، ونظيرها في بني إسرائيل : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] الآيات. وعنه أنه قال : المتشابهات حروف التهجّي في أوائل السور. وقال مجاهد وعكرمة : المحكم ما فيه من الحلال والحرام ، وما سوى ذلك متشابه يشبه بعضه بعضا في الحق ويصدق بعضه بعضا ؛ كقوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [البقرة : ٢٦] ، (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) [يونس : ١٠٠] ، وقال قتادة والضحاك والسدي : المحكم الناسخ الذي يعمل به والمتشابه المنسوخ الذي يؤمن به ولا يعمل به. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : محكمات القرآن : ناسخه ، وحلاله ، وحرامه ، وحدوده ، وفرائضه ، وما يؤمن به ، ويعمل به والمتشابهات : منسوخة ، ومقدّمه ، ومؤخره ، وأمثاله ، وأقسامه ، وما يؤمن به ولا يعمل به. وقيل : المحكم (٤) ما أوقف الله الخلق على معناه. والمتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه ، ولا سبيل لأحد إلى علمه ، نحو الخبر عن أشراط الساعة ، وخروج الدجال ونزول عيسى عليهالسلام ، وطلوع الشمس من مغربها ، وقيام الساعة ، وفناء الدنيا. قال أحمد بن جعفر بن الزبير : المحكم ما لا يحتمل من التأويل غير وجه واحد ، والمتشابه ما احتمل أوجها. وقيل : المحكم ما يعرف معناه وتكون حجّته واضحة ، ودلائله لائحة لا يشتبه ، والمتشابه هو الذي يدرك علمه بالنظر ، ولا يعرف العوام تفصيل الحق فيه من الباطل. وقال بعضهم : المحكم ما يستقل بنفسه في المعنى ، والمتشابه ما لا يستقل بنفسه إلا بردّه إلى غيره.
ع [٣٦١] قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية باذان : المتشابه حروف التهجّي في أوائل السور ، وذلك أن رهطا من اليهود منهم حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظراؤهما أتوا إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال له حيي : بلغنا أنه أنزل عليك (الم (١)) ننشدك الله أأنزلت عليك؟ قال : «نعم» ، قال : فإن كان
__________________
ع [٣٦١] ـ باطل. أخرجه الطبري ٢٤٦ عن الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، عن جابر مطوّلا والكلبي متهم بالكذب ، وقد أقرّ للثوري بالكذب ، فقال : كل ما حدثتك عن أبي صالح ، عن ابن عباس فهو كذب. راجع «الميزان» ٣ / ٥٥٧ للذهبي ، أبو صالح اسمه باذام ، ويقال : باذان ، رواياته عن ابن عباس باطلة.
__________________
(١) في المخطوط و ـ ط «يعمل» والمثبت يناسب لفظ «عليه».
(٢) زيادة عن ـ ط ـ.
(٣) زيد في المطبوع «في».
(٤) في المطبوع «المحكمات».