«وتناسق من لون آخر. في جرس الكلمات ، مع الصوت الذي يحدثه شد أحمال الحطب وجذب العنق بحبل من مسد. اقرأ : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) تجد فيها عنف الحزم والشد! الشبيه بحزم الحطب وشده. والشبيه كذلك بغل العنق وجذبه. والشبيه بجو الحنق والتهديد الشائع في السورة.
«وهكذا يلتقي تناسق الجرس الموسيقي ، مع حركة العمل الصوتية ، بتناسق الصور في جزئياتها المتناسقة ، بتناسق الجناس اللفظي ومراعاة النظير في التعبير ، ويتسق مع جو السورة وسبب النزول. ويتم هذا كله في خمس فقرات قصار ، وفي سورة من أقصر سور القرآن».
* * *
هذا التناسق القوي في التعبير جعل أم جميل تحسب أن الرسول صلىاللهعليهوسلم قد هجاها بشعر. وبخاصة حين انتشرت هذه السورة وما تحمله من تهديد ومذمة وتصوير زري لأم جميل خاصة. تصوير يثير السخرية من امرأة معجبة بنفسها ، مدلة بحسبها ونسبها. ثم ترتسم لها هذه الصورة : (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)! في هذا الأسلوب القوي الذي يشيع عند العرب!
قال ابن إسحاق : فذكر لي أن أم جميل حمالة الحطب حين سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن ، أتت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ، ومعه أبوبكر الصديق ، وفي يدها فهر (أي بمقدار ملء الكف) من حجارة. فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلا ترى إلا أبابكر. فقالت : يا أبابكر. أين صاحبك؟ قد بلغني أنه يهجوني. والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه. أما والله وإني لشاعرة! ثم قالت :
مذمما عصينا |
|
وأمره أبينا |
ثم انصرفت. فقال أبوبكر : يا رسول الله ، أما تراها رأتك؟ فقال : ما رأتني ، لقد أخذ الله ببصرها عني .. وروى الحافظ أبوبكر البزار ـ بإسناده ـ عن ابن عباس قال : لما نزلت : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) جاءت امرأة أبي لهب ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم جالس ومعه أبوبكر. فقال له أبوبكر : لو تنحيت لا تؤذيك بشيء! فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنه سيحال بيني وبينها» .. فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر ، فقالت : يا أبابكر ، هجانا صاحبك. فقال أبوبكر : لا ورب هذه البنية ما ينطق بالشعر ولا يتفوه به ، فقالت : إنك لمصدق. فلما ولت قال أبوبكر : ما رأتك؟ قال : «لا. ما زال ملك يسترني حتى ولت» ..
فهكذا بلغ منها الغيظ والحنق ، من سيرورة هذا القول الذي حسبته شعرا (وكان الهجاء لا يكون إلا شعرا) مما نفاه لها أبوبكر وهو صادق! ولكن الصورة الزرية المثيرة للسخرية التي شاعت في آياتها ، قد سجلت في الكتاب الخالد ، وسجلتها صفحات الوجود أيضا تنطق بغضب الله وحربه لأبي لهب وامرأته جزاء الكيد لدعوة الله ورسوله ، والتباب والهلاك والسخرية والزراية جزاء الكائدين لدعوة الله في الدنيا ، والنار في الآخرة جزاء وفاقا ، والذل الذي يشير إليه الحبل في الدنيا والآخرة جميعا ...
* * *