ولما أجمع بنو هاشم بقيادة أبي طالب على حماية النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولو لم يكونوا على دينه ، تلبية لدافع العصبية القبلية ، خرج أبو لهب على إخوته ، وحالف عليهم قريشا ، وكان معهم في الصحيفة التي كتبوها بمقاطعة بني هاشم وتجويعهم كي يسلموا لهم محمداصلىاللهعليهوسلم.
وكان قد خطب بنتي رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ رقية وأم كلثوم لولديه قبل بعثة النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما حتى يثقل كاهل محمد بهما!
وهكذا مضى هو وزوجته أم جميل يثيرانها حربا شعواء على النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وعلى الدعوة ، لا هوادة فيها ولا هدنة. وكان بيت أبي لهب قريبا من بيت رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فكان الأذى أشد. وقد روي أن أم جميل كانت تحمل الشوك فتضعه في طريق النبي ؛ وقيل : إن حمل الحطب كناية عن سعيها بالأذى والفتنة والوقيعة.
* * *
نزلت هذه السورة ترد على هذه الحرب المعلنة من أبي لهب وامرأته. وتولى الله ـ سبحانه ـ عن رسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أمر المعركة!
(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) .. والتباب الهلاك والبوار والقطع. «و (تَبَّتْ) الأولى دعاء. (وَتَبَّ) الثانية تقرير لوقوع هذا الدعاء. ففي آية قصيرة واحدة في مطلع السورة تصدر الدعوة وتتحقق ، وتنتهي المعركة ويسدل الستار!
فأما الذي يتلو آية المطلع فهو تقرير ووصف لما كان.
(ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) .. لقد تبت يداه وهلكتا وتب هو وهلك. فلم يغن عنه ماله وسعيه ولم يدفع عنه الهلاك والدمار.
ذلك ـ كان ـ في الدنيا. أما في الآخرة فإنه : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) .. ويذكر اللهب تصويرا وتشخيصا للنار وإيحاء بتوقدها وتلهبها.
(وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) .. وستصلاها معه امرأته حالة كونها حمالة للحطب .. وحالة كونها : (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) .. أي من ليف .. تشد هي به في النار. أو هي الحبل الذي تشد به الحطب. على المعنى الحقيقي إن كان المراد هو الشوك. أو المعنى المجازي إن كان حمل الحطب كناية عن حمل الشر والسعي بالأذى والوقيعة.
وفي الأداء التعبيري للسورة تناسق دقيق ملحوظ مع موضوعها وجوها ، نقتطف في بيانه سطورا من كتاب : «مشاهد القيامة في القرآن» نمهد بها لوقع هذه السورة في نفس أم جميل التي ذعرت لها وجن جنونها :
«أبو لهب. سيصلى نارا ذات لهب .. وامرأته حمالة الحطب. ستصلاها وفي عنقها حبل من مسد» ..
«تناسق في اللفظ ، وتناسق في الصورة. فجهنم هنا نار ذات لهب. يصلاها أبو لهب! وامرأته تحمل للحطب وتلقيه في طريق محمد لإيذائه (بمعناه الحقيقي أو المجازي) ... والحطب مما يوقد به اللهب. وهي تحزم الحطب بحبل. فعذابها في النار ذات اللهب أن تغل بحبل من مسد. ليتم الجزاء من جنس العمل ، وتتم الصورة بمحتوياتها الساذجة : الحطب والحبل. والنار واللهب. يصلى به أبو لهب وامرأته حمالة الحطب!