أو أنهما هما رمز لمنبتهما من الأرض ...
وشجرة الزيتون أشير إليها في القرآن في موضع آخر بجوار الطور : فقال : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) .. كما ورد ذكر الزيتون : (وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً) .. فأما (التِّينِ) فذكره يرد في هذا الموضع لأول مرة وللمرة الوحيدة في القرآن كله.
ومن ثم فإننا لا نملك أن نجزم بشيء في هذا الأمر. وكل ما نملك أن نقوله ـ اعتمادا على نظائر هذا الإطار في السور القرآنية ـ : إن الأقرب أن يكون ذكر التين والزيتون إشارة إلى أماكن أو ذكريات ذات علاقة بالدين والإيمان. أو ذات علاقة بنشأة الإنسان في أحسن تقويم (وربما كان ذلك في الجنة التي بدأ فيها حياته) .. كي تلتئم هذه الإشارة مع الحقيقة الرئيسية البارزة في السورة ؛ ويتناسق الإطار مع الحقيقة الموضوعة في داخله. على طريقة القرآن ...
* * *
فأما الحقيقة الداخلية في السورة فهي هذه : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) ..
ومنها تبدو عناية الله بخلق هذا الإنسان ابتداء في أحسن تقويم. والله ـ سبحانه ـ أحسن كل شيء خلقه. فتخصيص الإنسان هنا وفي مواضع قرآنية أخرى بحسن التركيب ، وحسن التقويم ، وحسن التعديل .. فيه فضل عناية بهذا المخلوق.
وإن عناية الله بأمر هذا المخلوق ـ على ما به من ضعف وعلى ما يقع منه من انحراف عن الفطرة وفساد ـ لتشير إلى أن له شأنا عند الله ، ووزنا في نظام هذا الوجود. وتتجلى هذه العناية في خلقه وتركيبه على هذا النحو الفائق ، سواء في تكوينه الجثماني البالغ الدقة والتعقيد ، أم في تكوينه العقلي الفريد ، أم في تكوينه الروحي العجيب.
والتركيز في هذا المقام على خصائصه الروحية. فهي التي تنتكس إلى أسفل سافلين حين ينحرف عن الفطرة ويحيد عن الإيمان المستقيم معها. إذ أنه من الواضح أن خلقته البدنية لا تنتكس إلى أسفل سافلين.
وفي هذه الخصائص الروحية يتجلى تفوق التكوين الإنساني. فهو مهيأ لأن يبلغ من الرفعة مدى يفوق مقام الملائكة المقربين. كما تشهد بذلك قصة المعراج .. حيث وقف جبريل ـ عليهالسلام ـ عند مقام ، وارتفع محمد بن عبد الله ـ الإنسان ـ إلى المقام الأسنى.
بينما هذا الإنسان مهيأ ـ حين ينتكس ـ لأن يهوي إلى الدرك الذي لا يبلغ إليه مخلوق قط : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) .. حيث تصبح البهائم أرفع منه وأقوم ، لاستقامتها على فطرتها ، وإلهامها تسبيح ربها ، وأداء وظيفتها في الأرض على هدى. بينما هو المخلوق في أحسن تقويم ، يجحد ربه ، ويرتكس مع هواه ، إلى درك لا تملك البهيمة أن ترتكس إليه.
(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) .. فطرة واستعدادا .. (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) .. حين ينحرف بهذه الفطرة عن الخط الذي هداه الله إليه ، وبينه له ، وتركه ليختار أحد النجدين.
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) .. فهؤلاء هم الذين يبقون على سواء الفطرة ، ويكملونها بالإيمان والعمل الصالح ، ويرتقون بها إلى الكمال المقدر لها ، حتى ينتهوا بها إلى حياة الكمال في دار الكمال. (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) دائم غير مقطوع.