وهذه الحقيقة الكبرى ماثلة في كل شيء في هذا الوجود ؛ يشهد بها كل شيء في رحاب الوجود. من الكبير إلى الصغير. ومن الجليل إلى الحقير .. كل شيء مسوى في صنعته ، كامل في خلقته. معد لأداء وظيفته. مقدر له غاية وجوده ، وهو ميسر لتحقيق هذه الغاية من أيسر طريق .. وجميع الأشياء مجتمعة كاملة التناسق ، ميسرة لكي تؤدي في تجمعها دورها الجماعي ؛ مثلما هي ميسرة فرادى لكي تؤدي دورها الفردي.
الذرة بمفردها كاملة التناسق بين كهاربها وبروتوناتها وإلكتروناتها ، شأنها شأن المجموعة الشمسية في تناسق شمسها وكواكبها وتوابعها .. وهي تعرف طريقها وتؤدي مثلها وظيفتها ..
والخلية الحية المفردة كاملة الخلقة والاستعداد لأداء وظائفها كلها ، شأنها شأن أرقى الخلائق الحية المركبة المعقدة.
وبين الذرة المفردة والمجموعة الشمسية ؛ كما بين الخلية الواحدة وأرقى الكائنات الحية ، درجات من التنظيمات والتركيبات كلها في مثل هذا الكمال الخلقي ، وفي مثل هذا التناسق الجماعي ، وفي مثل هذا التدبير والتقدير الذي يحكمها ويصرفها .. والكون كله هو الشاهد الحاضر على هذه الحقيقة العميقة ..
هذه الحقيقة يدركها القلب البشري جملة حين يتلقى إيقاعات هذا الوجود ؛ وحين يتدبر الأشياء في رحابه بحس مفتوح. وهذا الإدراك الإلهامي لا يستعصي على أي إنسان في أية بيئة ، وعلى أية درجة من درجات العلم الكسبي ، متى تفتحت منافذ القلب ، وتيقظت أوتاره لتلقي إيقاعات الوجود.
والملاحظة بعد ذلك والعلم الكسبي يوصحان بالأمثلة الفردية ما يدركه الإلهام بالنظرة الأولى .. وهناك من رصيد الملاحظة والدراسة ما يشير إلى طرف من تلك الحقيقة الشاملة لكل ما في الوجود.
يقول العالم (ا. كريسي موريسون) رئيس أكاديمية العلوم بنيورك في كتابه : «الإنسان لا يقوم وحده (١)» «إن الطيور لها غريزة العودة إلى الموطن. فعصفور الهزاز الذي عشش ببابك يهاجر جنوبا في الخريف. ولكنه يعود إلى عشه في الربيع التالي. وفي شهر سبتمبر تطير أسراب من معظم طيورنا (٢) إلى الجنوب. وقد تقطع في الغالب نحو ألف ميل فوق أرض البحار. ولكنها لا تضل طريقها. وحمام الزاجل إذا تحير من جراء أصوات جديدة عليه في رحلة طويلة داخل قفص ، يحوم برهة ثم يقصد قدما إلى موطنه دون أن يضل .. والنحلة تجد خليتها مهما طمست الريح ، في هبوبها على الأعشاب والأشجار ، كل دليل يرى. وحاسة العودة إلى الوطن هذه هي ضعيفة في الإنسان ، ولكنه يكمل عتاده القليل منها بأدوات الملاحة. ونحن في حاجة إلى هذه الغريزة ، وعقولنا تسد هذه الحاجة. ولا بد أن للحشرات الدقيقة عيونا ميكروسكوبية (مكبرة) لا ندري مبلغها من الإحكام ؛ وأن للصقور بصرا تلسكوبيا (مكبرا مقربا». وهنا أيضا يتفوق الإنسان بأدواته الميكانيكية فهو بتلسكوبه يبصر سديما بلغ من الضعف أنه يحتاج إلى مضاعفة قوة إبصاره مليوني مرة ليراه. وهو بمكروسكوبه الكهربائي يستطيع أن يرى بكتريا كانت غير مرئية (بل كذلك الحشرات الصغيرة التي تعضها!).
«وأنت إذا تركت حصانك العجوز وحده ، فإنه يلزم الطريق مهما اشتدت ظلمة الليل. وهو يقدر أن يرى ولو في غير وضوح. ولكنه يلحظ اختلاف درجة الحرارة في الطريق وجانبيه ، بعينين تأثرتا قليلا بالأشعة تحت الحمراء التي للطريق. والبومة تستطيع أن تبصر الفأر الدافئ اللطيف وهو يجري على العشب البارد مهما
__________________
(١) ترجمة الأستاذ محمود صالح الفلكي بعنوان : العلم يدعو إلى الإيمان.
(٢) أي طيور أمريكا.