الرب الخالق وإثبات الوحي الإلهي ، وتقرير الجزاء في الآخرة. وهي مقومات العقيدة الأولى. ثم تصل هذه العقيدة بأصولها البعيدة ، وجذورها الضاربة في شعاب الزمان : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) .. فوق ما تصوره من طبيعة هذه العقيدة ، وطبيعة الرسول الذي يبلغها والأمة التي تحملها .. طبيعة اليسر والسماحة ..
وكل واحدة من هذه تحتها موحيات شتى ؛ ووراءها مجالات بعيدة المدى ..
* * *
(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى. وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى. فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) ..
إن هذا الافتتاح ، بهذا المطلع الرخي المديد ، ليطلق في الجو ابتداء أصداء التسبيح ، إلى جانب معنى التسبيح. وإن هذه الصفات التي تلي الأمر بالتسبيح : (الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى. وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى. فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) .. لتحيل الوجود كله معبدا يتجاوب جنباته بتلك الأصداء ؛ ومعرضا تتجلى فيه آثار الصانع المبدع : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) ..
والتسبيح هو التمجيد والتنزيه واستحضار معاني الصفات الحسنى لله ، والحياة بين إشعاعاتها وفيوضاتها وإشراقاتها ومذاقاتها الوجدانية بالقلب والشعور. وليست هي مجرد ترديد لفظ : سبحان الله! .. و (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) .. تطلق في الوجدان معنى وحالة يصعب تحديدها باللفظ ، ولكنها تتذوق بالوجدان. وتوحي بالحياة مع الإشراقات المنبثقة من استحضار معاني الصفات.
والصفة الأولى القريبة في هذا النص هي صفة الرب. وصفة الأعلى .. والرب : المربي والراعي ، وظلال هذه الصفة الحانية مما يتناسق مع جو السورة وبشرياتها وإيقاعاتها الرخية .. وصفة الأعلى تطلق التطلع إلى الآفاق التي لا تتناهى ؛ وتطلق الروح لتسبح وتسبح إلى غير مدى .. وتتناسق مع التمجيد والتنزيه ، وهو في صميمه الشعور بصفة الأعلى ..
والخطاب هنا لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ابتداء. وهذا الأمر صادر إليه من ربه. بهذه الصيغة : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) .. وفيه من التلطف والإيناس ما يجل عن التعبير. وقد كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يقرأ هذا الأمر ، ثم يعقب عليه بالاستجابة المباشرة ، قبل أن يمضي في آيات السورة ، يقول : «سبحان ربي الأعلى» .. فهو خطاب ورده. وأمر وطاعته. وإيناس ومجاوبته .. إنه في حضرة ربه ، يتلقى مباشرة ويستجيب. في أنس وفي اتصال قريب .. وحينما نزلت هذه الآية قال : «اجعلوها في سجودكم». وحينما نزلت قبلا : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) .. قال : «اجعلوها في ركوعكم» .. فهذا التسبيح في الركوع والسجود كلمة حية ألحقت بالصلاة وهي دافئة بالحياة. لتكون استجابة مباشرة لأمر مباشر. أو بتعبير أدق .. لإذن مباشر .. فإذن الله لعباده بأن يحمدوه ويسبحوه إحدى نعمه عليهم وأفضاله. إنه إذن بالاتصال به ـ سبحانه ـ في صورة مقربة إلى مدارك البشر المحدودة. صورة تفضل الله عليهم بها ليعرفهم ذاته. في صفاته. في الحدود التي يملكون أن يتطلعوا إليها. وكل إذن للعباد بالاتصال بالله في أية صورة من صور الاتصال ، هو مكرمة له وفضل على العباد.
(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) .. (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) ..
الذي خلق كل شيء فسواه ، فأكمل صنعته ، وبلغ به غاية الكمال الذي يناسبه .. والذي قدر لكل مخلوق وظيفته وغايته فهداه إلى ما خلقه لأجله ، وألهمه غاية وجوده ؛ وقدر له ما يصلحه مدة بقائه ، وهداه إليه أيضا ..