ومن عجب أن التنافس في أمر الآخرة يرتفع بأرواح المتنافسين جميعا. بينما التنافس في أمر الدنيا ينحط بها جميعا. والسعي لنعيم الآخرة يصلح الأرض ويعمرها ويطهرها للجميع. والسعي لعرض الدنيا يدع الأرض مستنقعا وبيئا تأكل فيه الديدان بعضها البعض. أو تنهش فيه الهوام والحشرات جلود الأبرار الطيبين!
والتنافس في نعيم الآخرة لا يدع الأرض خرابا بلقعا كما قد يتصور بعض المنحرفين. إنما يجعل الإسلام الدنيا مزرعة الآخرة ، ويجعل القيام بخلافة الأرض بالعمار مع الصلاح والتقوى وظيفة المؤمن الحق. على أن يتوجه بهذه الخلافة إلى الله ، ويجعل منها عبادة له تحقق غاية وجوده كما قررها الله ـ سبحانه ـ وهو يقول : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (١).
وإن قولة (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) ... لهو توجيه يمد بأبصار أهل الأرض وقلوبهم وراء رقعة الأرض الصغيرة الزهيدة ، بينما هم يعمرون الأرض ويقومون بالخلافة فيها. ويرفعها إلى آفاق أرفع وأطهر من المستنقع الآسن بينما هم يطهرون المستنقع وينظفونه!
إن عمر المرء في هذه العاجلة محدود ، وعمره في الآجلة لا يعلم نهايته إلا الله. وإن متاع هذه الأرض في ذاته محدود. ومتاع الجنة لا تحده تصورات البشر. وإن مستوى النعيم في هذه الدنيا معروف ومستوى النعيم هناك يليق بالخلود! فأين مجال من مجال؟ وأين غاية من غاية؟ حتى بحساب الربح والخسارة فيما يعهد البشر من الحساب؟!
ألا إن السباق إلى هناك .. (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) ..
* * *
وكأنما أطال السياق في عرض صور النعيم الذي ينتظر الأبرار ، تمهيدا للحديث عما كانوا يلقون في الأرض من الفجار. من أذى واستهزاء وتطاول وادعاء .. وقد أطال في عرضه كذلك. ليختمه بالسخرية من الكفار ، وهم يشهدون نعيم الأبرار :
(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ. وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ. وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ. وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا : إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ .. وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ .. فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) ...
(هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ؟) ..
والمشاهد التي يرسمها القرآن لسخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا ، وسوء أدبهم معهم ، وتطاولهم عليهم ، ووصفهم بأنهم ظالون .. مشاهد منتزعة من واقع البيئة في مكة. ولكنها متكررة في أجيال وفي مواطن شتى. وكثير من المعاصرين شهدوها كأنما هذه الآيات قد نزلت في وصفها وتصويرها. مما يدل على أن طبيعة الفجار المجرمين واحدة متشابهة في موقفها من الأبرار في جميع البيئات والعصور!!
(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) .. كانوا .. فقد طوى السياق الدنيا العاجلة الزائلة. فإذا المخاطبون به في الآخرة. يرون نعيم الأبرار الذين آمنوا. وهو يذكر لهم ما كان من أمر الدنيا!
إنهم كانوا يضحكون من الذين آمنوا استهزاء بهم ، وسخرية منهم. إما لفقرهم ورثاثة حالهم. وإما لضعفهم
__________________
(١) يراجع تفسير هذا القول في سورة الذاريات الجزء السابع والعشرون. صفحة ٣٣٨٦ ـ ٣٣٨٨.