سبق ذكر معنى مرقوم. ويضاف إليه هنا أن الملائكة المقربين يشهدون هذا الكتاب ويرونه. وتقرير هذه الحقيقة هنا يلقي ظلا كريما طاهرا رفيعا على كتاب الأبرار. فهو موضع مشاهدة المقربين من الملائكة ، ومتعتهم بما فيه من كرائم الأفعال والصفات. وهذا ظل كريم شفيف ، يذكر بقصد التكريم.
ثم يذكر حال الأبرار أنفسهم ، أصحاب هذا الكتاب الكريم. ويصف ما هم فيه من نعيم في ذلك اليوم العظيم :
(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) .. يقابل الجحيم الذي ينتهي إليه الفجار .. (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) أي إنهم في موضع التكريم ، ينظرون حيث يشاءون ، لا يغضون من مهانة ، ولا يشغلون عن النظر من مشقة .. وهم على الأرائك وهي الأسرة في الحجال. وأقرب ما يمثلها عندنا ما نسميه «الناموسية» أو الكلة! وصورتها الدنيوية كانت أرقى وأرق مظاهر النعيم عند العربي ذي العيشة الخشنة! أما صورتها الأخروية فعلمها عند الله. وهي على أية حال أعلى من كل ما يعهده الإنسان مما يستمده من تجاربه في الأرض وتصوراته!
وهم في هذا النعيم ناعمو النفوس والأجسام ، تفيض النضرة على وجوههم وملامحهم حتى ليراها كل راء : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) ..
(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ) ..
والرحيق الشراب الخالص المصفى ، الذي لا غش فيه ولا كدرة. ووصفه بأنه مختوم ختامه مسك ، قد يفيد أنه معد في أوانيه ، وأن هذه الأواني مقفلة مختومة ، تفض عند الشراب ، وهذا يلقي ظل الصيانة والعناية. كما أن جعل الختم من المسك فيه أناقة ورفاهية! وهذه الصورة لا يدركها البشر إلا في حدود ما يعهدون في الأرض. فإذا كانوا هنالك كانت لهم أذواق ومفاهيم تناسب تصورهم الطليق من جو الأرض المحدود!
وقبل أن يتم وصف الشراب الذي يجيء في الآيتين التاليتين : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) .. أي أن هذا الرحيق المختوم يفض ختامه ثم يمزج بشيء من هذه العين المسماة : (تَسْنِيمٍ) التي (يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) .. قبل أن يتم الوصف يلقي بهذا الإيقاع ، وبهذا التوجيه : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) .. وهو إيقاع عميق يدل على كثير ...
إن أولئك المطففين ، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، ولا يحسبون حساب اليوم الآخر ، ويكذبون بيوم الحساب والجزاء ، ويرين على قلوبهم الإثم والمعصية .. إن هؤلاء إنما يتنافسون في مال أو متاع من متاع الأرض الزهيد. يريد كل منهم أن يسبق إليه ، وأن يحصل على أكبر نصيب منه. ومن ثم يظلم ويفجر ويأثم ويرتكب ما يرتكب في سبيل متاع من متاع الأرض زائل ..
وما في هذا العرض القريب الزهيد ينبغي التنافس. إنما يكون التنافس في ذلك النعيم وفي ذلك التكريم : (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) .. فهو مطلب يستحق المنافسة ، وهو أفق يستحق السباق ، وهو غاية تستحق الغلاب.
والذين يتنافسون على شيء من أشياء الأرض مهما كبر وجل وارتفع وعظم ، إنما يتنافسون في حقير قليل فان قريب. والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة. ولكن الآخرة ثقيلة في ميزانه. فهي إذن حقيقة تستحق المنافسة فيها والمسابقة ..