فتقبل منهم الجزية كما تقبل من أهل الكتاب. وقبول الجزية عند التسليم لا ينفي أن يقع الأسرى في أيدي المسلمين قبل التسليم. فهؤلاء الأسرى ما الحكم فيهم؟ نقول : إنه يجوز المن عليهم إذا رأى الإمام المصلحة ، أو الفداء بهم بالمال أو بالمسلمين ، إذا ظل قومهم قوة لم تستسلم بعد ولم تقبل الجزية. فأما عند الاستسلام للجزية فالأمر منته بطبيعته وهذه حالة أخرى ، فحكم الأسرى يظل ساريا في الحالة التي لم تنته بالجزية).
والخلاصة التي ننتهي إليها أن هذا النص هو الوحيد المتضمن حكم الأسرى. وسائر النصوص تتضمن حالات أخرى غير حالة الأسر. وأنه هو الأصل الدائم للمسألة. وما وقع بالفعل خارجا عنه كان لمواجهة حالات خاصة وأوضاع وقتية. فقتل بعض الأسرى كان في حالات فردية يمكن أن يكون لها دائما نظائر ؛ وقد أخذوا بأعمال سابقة على الأسر ، لا بمجرد خروجهم للقتال. ومثال ذلك أن يقع جاسوس أسيرا فيحاكم على الجاسوسية لا على أنه أسير. وإنما كان الأسر مجرد وسيلة للقبض عليه.
ويبقى الاسترقاق. وقد سبق لنا في مواضع مختلفة من هذه الظلال القول بأنه كان لمواجهة أوضاع عالمية قائمة ، وتقاليد في الحرب عامة. ولم يكن ممكنا أن يطبق الإسلام في جميع الحالات النص العام : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) .. في الوقت الذي يسترق أعداء الإسلام من يأسرونهم من المسلمين. ومن ثم طبقه الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في بعض الحالات فأطلق بعض الأسارى منا. وفادى ببعضهم أسرى المسلمين ، وفادى بعضهم بالمال. وفي حالات أخرى وقع الاسترقاق لمواجهة حالات قائمة لا تعالج بغير هذا الإجراء.
فإذا حدث أن اتفقت المعسكرات كلها على عدم استرقاق الأسرى ، فإن الإسلام يرجع حينئذ إلى قاعدته الإيجابية الوحيدة وهي : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) لا نقضاء الأوضاع التي كانت تقضي بالاسترقاق. فليس الاسترقاق حتميا ، وليس قاعدة من قواعد معاملة الأسرى في الإسلام.
وهذا هو الرأي الذي نستوحيه من النص القرآني الحاسم. ومن دراسة الأحوال والأوضاع والأحداث .. والله الموفق للصواب.
ويحسن أن يكون مفهوما أنني أجنح إلى هذا الرأي لأن النصوص القرآنية واستقراء الحوادث وظروفها يؤيده ، لا لأنه يهجس في خاطري أن استرقاق الأسرى تهمة أحاول أن أبرئ الإسلام منها! إن مثل هذا الخاطر لا يهجس في نفسي أبدا ، فلو كان الإسلام رأى هذا لكان هو الخير ، لأنه ما من إنسان يعرف شيئا من الأدب يملك أن يقول : إنه يرى خيرا مما يرى الله. إنما أنا أسير مع نص القرآن وروحه فأجنح إلى ذلك الرأي بإيحاء النص واتجاهه.
وذلك .. ـ أي القتال وضرب الرقاب وشد الوثاق واتباع هذه القاعدة في الأسرى ـ (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) .. أي حتى تنتهي الحرب بين الإسلام وأعدائه المناوئين له. فهي القاعدة الكلية الدائمة. ذلك أن «الجهاد ماض إلى يوم القيامة» كما يقول رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حتى تكون كلمة الله هي العليا (١).
* * *
والله لا يكلف الذين آمنوا هذا الأمر ، ولا يفرض عليهم هذا الجهاد ، لأنه يستعين بهم ـ حاشاه ـ على الذين كفروا. فهو سبحانه قادر على أن يقضي عليهم قضاء مباشرا ؛ وإنما هو ابتلاء الله لعباده بعضهم ببعض ؛ الابتلاء الذي تقدر به منازلهم :
__________________
(١) من حديث أخرجه أبو داود ـ بإسناده ـ عن أنس رضي الله عنه.