كيسان عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن بن عوف ، أنه سمع أبا بكر الصديق يقول : «وددت أني يوم أتيت بالفجاءة لم أكن أحرقته ، وكنت قتلته سريحا ، أو أطلقته نجيحا». وعن أبي موسى أنه قتل دهقان السوس بعد ما أعطاه الأمان على قوم سماهم ونسي نفسه فلم يدخلها في الأمان فقتله. فهذه آثار متواترة عن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وعن الصحابة في جواز قتل الأسير وفي استبقائه. واتفق فقهاء الأمصار على ذلك. (وجواز القتل لا يؤخذ من الآية ، ولكن يؤخذ من عمل رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وبعض الصحابة. وتتبع الحالات التي وقع فيها القتل يعطي أنها حالات خاصة ، وراءها أسباب معينة غير مجرد التعرض للقتال والأسر. فالنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط كلاهما كان له موقف خاص في إيذاء رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وإيذاء دعوته. وكذلك أبو عزة الشاعر ، ولبني قريظة كذلك موقف خاص بارتضائهم حكم سعد بن معاذ سلفا. وهكذا نجد في جميع الحالات أسبابا معينة تفرد هذه الحالات من الحكم العام للأسرى الذي تقرره الآية : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً)) ..
وإنما اختلفوا في فدائه ، فقال أصحابنا جميعا (يعني الحنفية) : لا يفادى الأسير بالمال ، ولا يباع السبي من أهل الحرب فيردوا حربا. وقال أبو حنيفة : لا يفادون بأسرى المسلمين أيضا ، ولا يردون حربا أبدا. وقال أبو يوسف ومحمد : لا بأس أن يفادى أسرى المسلمين بأسرى المشركين. وهو قول الثوري والأوزاعي ، وقال الأوزاعي : لا بأس ببيع السبي من أهل الحرب ، ولا يباع الرجال إلا أن يفادى بهم المسلمون. وقال المزني عن الشافعي : للإمام أن يمن على الرجال الذين ظهر عليهم أو يفادي بهم ، فأما المجيزون للفداء بأسرى المسلمين وبالمال فإنهم احتجوا بقوله : (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) وظاهره يقتضي جوازه بالمال وبالمسلمين ؛ وبأن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فدى أسارى بدر بالمال. ويحتجون للفداء بالمسلمين بما روى ابن المبارك ، عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران ابن حصين. قال : أسرت ثقيف رجلين من أصحاب النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأسر أصحاب النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ رجلا من بني عامر ابن صعصعة ؛ فمر به النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهو موثق ، فناداه ، فأقبل إليه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : علام أحبس؟ قال : «بجريرة حلفائك». فقال الأسير : إني مسلم ، فقال النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كل الفلاح». ثم مضى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فناداه أيضا ، فأقبل ، فقال : إني جائع فأطعمني. فقال النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «هذه حاجتك». ثم إن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فداه بالرجلين اللذين كانت ثقيف أسرتهما .. (وحجة القائلين بالفداء أرجح في تقديرنا من حجة أصحاب الإمام الجصاص على الاختلاف في الفداء بالمال أو بأسرى المسلمين).
وقد ختم الإمام الجصاص القول في المسألة بترجيح رأي أصحابه الحنفية قال : وأما ما في الآية من ذكر المن والفداء ، وما روي في أسارى بدر فإن ذلك منسوخ بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) .. وقد روينا ذلك عن السدي وابن جريج. وقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) إلى قوله : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ). فتضمنت الآيتان وجوب القتال للكفار حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية. والفداء بالمال أو بغيره ينافي ذلك. ولم يختلف أهل التفسير ونقلة الآثار أن سورة (بَراءَةٌ) بعد سورة «محمد» ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فوجب أن يكون الحكم المذكور فيها ناسخا للفداء المذكور في غيرها .. (وقد سبق القول بأن هذا القتل للمشركين ـ أو الإسلام ـ مقصود به مشركو الجزيرة فهو حكم خاص بهم. أما غيرهم خارجها