والنكير الإنكار وما يتبعه من الآثار ، ولقد أنكر الله ممن كذبوا قبلهم أن يكذبوا. وهو يسألهم : (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ؟) وهم يعلمون كيف كان ، فقد كانت آثار الدمار والخراب تصف لهم كيف كان هذا النكير! وكيف كان ما أعقبه من تدمير!
والأمان الذي ينكره الله على الناس ، هو الأمان الذي يوحي بالغفلة عن الله وقدرته وقدره ، وليس هو الاطمئنان إلى الله ورعايته ورحمته. فهذا غير ذاك. فالمؤمن يطمئن إلى ربه ، ويرجو رحمته وفضله. ولكن هذا لا يقوده إلى الغفلة والنسيان والانغمار في غمرة الأرض ومتاعها ، إنما يدعوه إلى التطلع الدائم ، والحياء من الله ، والحذر من غضبه ، والتوقي من المخبوء في قدره ، مع الإخبات والاطمئنان.
قال الإمام أحمد ـ بإسناده ـ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : «ما رأيت رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته. إنما كان يبتسم. وقالت : كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه. قالت : يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية. فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : «يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟ قد عذب قوم بالريح. وقد رأى قوم العذاب وقالوا ، هذا عارض ممطرنا (١)»
فهذا هو الإحساس اليقظ الدائم بالله وقدره ، وبما قصه القرآن من هذا في سيره. وهو لا ينافي الاطمئنان إلى رحمة الله وتوقع فضله.
ثم هو إرجاع جميع الأسباب الظاهرة إلى السبب الأول. ورد الأمر بحاله وكليته إلى من بيده الملك وهو على كل شيء قدير. فالخسف والحاصب ، والبراكين والزلازل ، والعواصف ، وسائر القوى الكونية والظواهر الطبيعية ليس في أيدي البشر من أمرها شيء. إنما أمرها إلى الله. وكل ما يذكره البشر عنها فروض يحاولون بها تفسير حدوثها ، ولكنهم لا يتدخلون في إحداثها ، ولا يحمون أنفسهم منها. وكل ما ينشئونه على ظهر الأرض تذهب به رجفة من رجفاتها ، أو إعصار من أعاصيرها ، كما لو كان لعبا من الورق! فأولى لهم أن يتوجهوا في أمرها إلى خالق هذا الكون ، ومنشئ نواميسه التي تحكم هذه الظواهر ، ومودعه القوى التي يتجلى جانب منها في هذه الأحداث. وأن يتطلعوا إلى السماء ـ حيث هي رمز للعلو ـ فيتذكروا الله الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير.
إن الإنسان قوي بالقدر الذي وهبه الله من القوة. عالم بالقدر الذي أعطاه الله من العلم. ولكن هذا الكون الهائل زمامه في يد خالقه ، ونواميسه من صنعه ، وقواه من إمداده. وهذه القوى تسير وفق نواميسه في حدود قدره. وما يصيب الإنسان منها مقدور مرسوم ، وما يعلمه الإنسان منها مقدور معلوم. والوقائع التي تحدث تقف هذا الإنسان بين الحين والحين أمام قوى الكون الهائلة مكتوف اليدين حسيرا ، ليس له إلا أن يتذكر خالق هذه القوى ومروضها ؛ وإلا أن يتطلع إلى عونه ليواجهها ، ويسخر ما هو مقدور له أن يسخره منها.
وحين ينسى هذه الحقيقة ، ويغتر وينخدع بما يقسم الله له من العلم ومن القدرة على تسخير بعض قوى الكون ، فإنه يصبح مخلوقا مسيخا مقطوعا عن العلم الحقيقي الذي يرفع الروح إلى مصدرها الرفيع ؛ ويخلد إلى الأرض في عزلة عن روح الوجود! بينما العالم المؤمن يركع في مهرجان الوجود الجميل ، ويتصل ببارئ الوجود
__________________
(١) أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن وهب.