وَعَمَلِهِ) .. وتبرأت من قوم فرعون وهي تعيش بينهم : (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ..
ودعاء امرأة فرعون وموقفها مثل للاستعلاء على عرض الحياة الدنيا في أزهى صوره. فقد كانت امرأة فرعون أعظم ملوك الأرض يومئذ. في قصر فرعون أمتع مكان تجد فيه امرأة ما تشتهي .. ولكنها استعلت على هذا بالإيمان. ولم تعرض عن هذا العرض فحسب ، بل اعتبرته شرا ودنسا وبلاء تستعيذ بالله منه ، وتتفلت من عقابيله ، وتطلب النجاة منه!
وهي امرأة واحدة في مملكة عريضة قوية .. وهذا فضل آخر عظيم. فالمرأة ـ كما أسلفنا ـ أشد شعورا وحساسية بوطأة المجتمع وتصوراته. ولكن هذه المرأة .. وحدها .. في وسط ضغط المجتمع ، وضغط القصر ، وضغط الملك ، وضغط الحاشية ، والمقام الملوكي. في وسط هذا كله رفعت رأسها إلى السماء .. وحدها .. في خضم هذا الكفر الطاغي!
وهي نموذج عال في التجرد لله من كل هذه المؤثرات وكل هذه الأواصر ، وكل هذه المعوقات ، وكل هذه الهواتف. ومن ثم استحقت هذه الإشارة في كتاب الله الخالد. الذي تتردد كلماته في جنبات الكون وهي تتنزل من الملأ الأعلى ..
(وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ) .. إنها كذلك مثل للتجرد لله منذ نشأتها التي قصها الله في سور أخرى. ويذكر هنا تطهرها : (الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) .. يبرئها مما رمتها به يهود الفاجرة! (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا). ومن هذه النفخة كان عيسى عليهالسلام ، كما هو مفصل في السورة المفصلة لهذا المولد «سورة مريم» فلا نستطرد معه هنا تمشيا مع ظل النص الحاضر ، الذي يستهدف تصوير طهارة مريم وإيمانها الكامل وطاعتها : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) ..
وإفراد امرأة فرعون بالذكر هنا مع مريم ابنة عمران يدل على المكانة العالية التي جعلتها قرينة مريم في الذكر. بسبب ملابسات حياتها التي أشرنا إليها. وهما الاثنتان نموذجان للمرأة المتطهرة المؤمنة المصدقة القانتة يضربهما الله لأزواج النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بمناسبة الحادث الذي نزلت فيه آيات صدر السورة ، ويضربهما للمؤمنات من بعد في كل جيل ..
* * *
وأخيرا فإن هذه السورة ـ وهذا الجزء كله ـ قطعة حية من السيرة ، رسمها القرآن بأسلوبه الموحي. لا تملك روايات البشر التاريخية عن تلك الفترة أن ترسمها. فالتعبير القرآني أكثر إيحاء ، وأبعد آمادا ، وهو يستخدم الحادثة المفردة لتصوير الحقيقة المجردة ، الباقية وراء الحادثة ووراء الزمان والمكان .. كما هو شأن القرآن ..
* * *