وسلم ـ فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثر في جنبه. فقلت : أطلقت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إليّ وقال : «لا». فقلت : الله أكبر! ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قوما نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم ، فغضبت على امرأتي يوما ، فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تراجعني ، فقالت : ما تنكر أن أراجعك؟ فو الله إن أزواج النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل. فقلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر! أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ؛ فإذا هي قد هلكت؟ فتبسم رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقلت : يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت : لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم أو أحب إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ منك! فتبسم أخرى. فقلت : أستأنس يا رسول الله! قال : «نعم» فجلست ، فرفعت رأسي في البيت فو الله ما رأيت في البيت شيئا يرد البصر إلا هيبة مقامه فقلت : ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أمتك فقد وسع على فارس والروم وهم لا يعبدون الله. فاستوى جالسا وقال : «أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا». فقلت : استغفر لي يا رسول الله .. وكان أقسم ألا يدخل عليهن شهرا من شدة موجدته عليهن حتى عاتبه الله عزوجل» .. (وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي من طرق عن الزهري بهذا النص) ..
* * *
هذه رواية الحادث في السير. فلننظر في السياق القرآني الجميل :
تبدأ السورة بهذا العتاب من الله سبحانه لرسوله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ :
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ ، تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ؟ قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ ، وَاللهُ مَوْلاكُمْ ، وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ..
وهو عتاب مؤثر موح. فما يجوز أن يحرم المؤمن على نفسه ما أحله الله له من متاع. والرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لم يكن حرم العسل أو مارية بمعنى التحريم الشرعي ؛ إنما كان قد قرر حرمان نفسه. فجاء هذا العتاب يوحي بأن ما جعله الله حلالا فلا يجوز حرمان النفس منه عمدا وقصدا إرضاء لأحد .. والتعقيب : (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .. يوحي بأن هذا الحرمان من شأنه أن يستوجب المؤاخذة ، وأن تتداركه مغفرة الله ورحمته. وهو إيحاء لطيف.
فأما اليمين التي يوحي النص بأن الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قد حلفها ، فقد فرض الله تحلتها. أي كفارتها التي يحل منها. ما دامت في غير معروف والعدول عنها أولى. (وَاللهُ مَوْلاكُمْ) .. فهو يعينكم على ضعفكم وعلى ما يشق عليكم. ومن ثم فرض تحلة الأيمان ، للخروج من العنت والمشقة .. (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ). يشرع لكم عن علم وعن حكمة ، ويأمركم بما يناسب طاقتكم وما يصلح لكم. فلا تحرموا إلا ما حرم ، ولا تحلوا غير ما أحل. وهو تعقيب يناسب ما قبله من توجيه.
ثم يشير إلى الحديث ولا يذكر موضوعه ولا تفصيله ، لأن موضوعه ليس هو المهم ، وليس هو العنصر الباقي فيه. إنما العنصر الباقي هو دلالته وآثاره :
«وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا» ..
ومن النص نطلع على نموذج من تلك الفترة العجيبة في تاريخ البشرية. الفترة التي يعيش فيها الناس مع السماء. والسماء تتدخل في أمرهم علانية وتفصيلا. ونعلم أن الله قد أطلع نبيه على ما دار بين زوجيه بشأن ذلك الحديث