كبير من التصور الإيماني. (وقد فصلنا الحديث عنها عند استعراض قوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) في سورة الفرقان. وعند قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) .. في سورة القمر). ولكن ذكر هذه الحقيقة الكلية هنا يربط بها ما قدره الله عن الطلاق وفترته ، والعدة ووقتها ، والشهادة وإقامتها. ويطبع هذه الأحكام بطابع السنة الإلهية النافذة ، والناموس الكلي العام. ويوقع في الحس أن الأمر جد من جد النظام الكوني المقدر في كل خلق الله.
* * *
(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ ـ إِنِ ارْتَبْتُمْ ـ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ. وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً. ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ ، وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً).
وهذا تحديد لمدة العدة لغير ذوات الحيض والحمل. يشمل اللواتي انقطع حيضهن ، واللاتي لم يحضن بعد لصغر أو لعلة. ذلك أن المدة التي بينت من قبل في سورة البقرة كانت تنطبق على ذوات الحيض ـ وهي ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار من الحيضات. حسب الخلاف الفقهي في المسألة ـ فأما التي انقطع حيضها والتي لم تحض أصلا فكان حكمها موضع لبس : كيف تحسب عدتها؟ فجاءت هذه الآية تبين وتنفي اللبس والشك ، وتحدد ثلاثة أشهر لهؤلاء وهؤلاء ، لاشتراكهن في عدم الحيض الذي تحسب به عدة أولئك. أما الحوامل فجعل عدتهن هي الوضع. طال الزمن بعد الطلاق أم قصر. ولو كان أربعين ليلة فترة الطهر من النفاس. لأن براءة الرحم بعد الوضع مؤكدة ، فلا حاجة إلى الانتظار. والمطلقة تبين من مطلقها بمجرد الوضع ، فلا حكمة في انتظارها بعد ذلك ، وهي غير قابلة للرجعة إليه إلا بعقد جديد على كل حال. وقد جعل الله لكل شيء قدرا. فليس هناك حكم إلا ووراءه حكمة.
هذا هو الحكم ثم تجيء اللمسات والتعقيبات :
(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) ..
واليسر في الأمر غاية ما يرجوه إنسان. وإنها لنعمة كبرى أن يجعل الله الأمور ميسرة لعبد من عباده. فلا عنت ولا مشقة ولا عسر ولا ضيقة. يأخذ الأمور بيسر في شعوره وتقديره. وينالها بيسر في حركته وعمله. ويرضاها بيسر في حصيلتها ونتيجتها. ويعيش من هذا في يسر رخي ندي ، حتى يلقى الله .. ألا إنه لإغراء باليسر في قضية الطلاق مقابل اليسر في سائر الحياة!
(ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ) ..
وهذه لمسة أخرى في جانب آخر. لمسة الجد والانتباه إلى مصدر الأمر .. فقد أنزله الله. أنزله للمؤمنين به ، فطاعته تحقيق لمعنى الإيمان ، ولحقيقة الصلة بينهم وبين الله.
ثم عودة إلى التقوى التي يدق عليها دقا متواصلا في هذا المجال :
(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) ..
فالأولى تيسير للأمور. والثانية تكفير للسيئات وإعظام للأجر بعد التكفير .. فهو الفيض المغري والعرض المثير. وهو حكم عام ووعد شامل. ولكنه يخلع على موضوع الطلاق ظلاله ، ويغمر القلب بالشعور بالله