يده وحمل بسيفه حتى قتل» .. وقد روي أن هذا كان هو عبير بن الحمام عليه رضوان الله.
وبينما الصديقون في ذلك المقام والشهداء في هذا المقام يقول النص القرآني عن الكافرين المكذبين :
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) ..
فمن ذا الذي يترك الكرامة والنعيم ، ويختار أن يكون من أصحاب الجحيم؟!
واللمسة الثالثة في هذا الشوط تجيء تعقيبا على دعوة الإيمان والبذل ، ودعوة الفداء والتضحية. تعقيبا يصور الدنيا كلها بصورة هزيلة زهيدة تهوّن من شأنها وترفع النفوس عنها ، وتعلقها بالآخرة وقيمها :
(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ ، وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ ، وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ، ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ، ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً. وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) ..
والحياة الدنيا حين تقاس بمقاييسها هي وتوزن بموازينها تبدو في العين وفي الحس أمرا عظيما هائلا. ولكنها حين تقاس بمقاييس الوجود وتوزن بميزان الآخرة تبدو شيئا زهيدا تافها. وهي هنا في هذا التصوير تبدو لعبة أطفال بالقياس إلى ما في الآخرة من جد تنتهي إليه مصائر أهلها بعد لعبة الحياة!
لعب. ولهو. وزينة ، وتفاخر. وتكاثر ... هذه هي الحقيقة وراء كل ما يبدو فيها من جد حافل واهتمام شاغل .. ثم يمضي يضرب لها مثلا مصورا على طريقة القرآن المبدعة .. (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) .. والكفار هنا هم الزراع. فالكافر في اللغة هو الزارع ، يكفر أي يحجب الحبة ويغطيها في التراب. ولكن اختياره هنا فيه تورية وإلماع إلى إعجاب الكفار بالحياة الدنيا! (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا) للحصاد. فهو موقوت الأجل ، ينتهي عاجلا ، ويبلغ أجله قريبا (ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً) .. وينتهي شريط الحياة كلها بهذه الصورة المتحركة المأخوذة من مشاهدات البشر المألوفة .. ينتهي بمشهد الحطام!
فأما الآخرة فلها شأن غير هذا الشأن ، شأن يستحق أن يحسب حسابه ، وينظر إليه ، ويستعد له : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) .. فهي لا تنتهي في لمحة كما تنتهي الحياة الدنيا. وهي لا تنتهي إلى حطام كذلك النبات البالغ أجله .. إنها حساب وجزاء .. ودوام .. يستحق الاهتمام!
(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) ..
فما لهذا المتاع حقيقة ذاتية ، إنما يستمد قوامه من الغرور الخادع ؛ كما أنه يلهي وينسي فينتهي بأهله إلى غرور خادع.
وهي حقيقة حين يتعمق القلب في طلب الحقيقة. حقيقة لا يقصد بها القرآن العزلة عن حياة الأرض ، ولا إهمال عمارتها وخلافتها التي ناطها بهذا الكائن البشري (١). إنما يقصد بها تصحيح المقاييس الشعورية والقيم النفسية ، والاستعلاء على غرور المتاع الزائل وجاذبيته المقيدة بالأرض. هذا الاستعلاء الذي كان المخاطبون بهذه السورة في حاجة إليه ليحققوا إيمانهم. والذي يحتاج إليه كل مؤمن بعقيدة ، ليحقق عقيدته ؛ ولو اقتضى تحقيقها أن يضحي بهذه الحياة الدنيا جميعا.
__________________
(١) يرجع إلى تفسير قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) .. في سورة الذاريات في هذا الجزء.