مثلا ، فتطلع في البطن أو في القدم. مع أنها لو أخذت أخذا صناعيا فزرعت في البطن مثلا صنعت هنالك عينا! ولكنها هي بإلهامها لا تخطئ فتذهب إلى البطن لصنع عين هناك! ولا تذهب خلايا الأذن إلى القدم لتصنع أذنا هناك! .. إنها كلها تعمل وتنشئ هذا الكيان البشري في أحسن تقويم تحت عين الخالق ، حيث لا عمل للإنسان في هذا المجال (١)
هذه هي البداية. أما النهاية فلا تقل عنها إعجازا ولا غرابة. وإن كانت مثلها من مشاهدات البشر المألوفة :
(نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ ، وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) ..
هذا الموت الذي ينتهي إليه كل حي .. ما هو؟ وكيف يقع؟ وأي سلطان له لا يقاوم؟
إنه قدر الله .. ومن ثم لا يفلت منه أحد ، ولا يسبقه فيفوته أحد .. وهو حلقة في سلسلة النشأة التي لا بد أن تتكامل ..
(عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) ..
لعمارة الأرض والخلافة فيها بعدكم. والله الذي قدر الموت هو الذي قدر الحياة. قدر الموت على أن ينشئ أمثال من يموتون ، حتى يأتي الأجل المضروب لهذه الحياة الدنيا .. فإذا انتهت عند الأجل الذي سماه كانت النشأة الأخرى :
(وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) ..
في ذلك العالم المغيب المجهول ، الذي لا يدري عنه البشر إلا ما يخبرهم به الله. وعندئذ تبلغ النشأة تمامها ، وتصل القافلة إلى مقرها.
هذه هي النشأة الآخرة .. (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ!) .. فهي قريب من قريب. وليس فيها من غريب.
بهذه البساطة وبهذه السهولة يعرض القرآن قصة النشأة الأولى والنشأة الآخرة. وبهذه البساطة وهذه السهولة يقف الفطرة أمام المنطق الذي تعرفه ، ولا تملك أن تجادل فيه. لأنه مأخوذ من بديهياتها هي ، ومن مشاهدات البشر في حياتهم القريبة. بلا تعقيد. ولا تجريد. ولا فلسفة تكد الأذهان ، ولا تبلغ إلى الوجدان ..
إنها طريقة الله. مبدع الكون ، وخالق الإنسان ، ومنزل القرآن ..
* * *
ومرة أخرى في بساطة ويسر يأخذ بقلوبهم إلى أمر مألوف لهم ، مكرر في مشاهداتهم ، ليريهم يد الله فيه ؛ ويطلعهم على المعجزة التي تقع بين أيديهم ، وعلى مرأى من عيونهم ، وهم عنها غافلون :
(أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ؟ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ؟ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ : إِنَّا لَمُغْرَمُونَ. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) ..
هذا الزرع الذي ينبت بين أيديهم وينمو ويؤتي ثماره. ما دورهم فيه؟ إنهم يحرثون ويلقون الحب والبذور التي صنعها الله. ثم ينتهي دورهم وتأخذ يد القدرة في عملها المعجز الخارق العجيب.
تأخذ الحبة أو البذرة طريقها لإعادة نوعها. تبدؤه وتسير فيه سيرة العاقل العارف الخبير بمراحل الطريق!
__________________
(١) يراجع تفسير قوله تعالى : (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) في سورة النجم بهذا الجزء.