فأما الشوط الثاني في السورة فيستهدف بناء العقيدة بكليتها ، وإن كان التوكيد البارز فيه على قضية البعث والنشأة الأخرى. وفيه تتجلى طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية ، وفي تناول الدلائل الإيمانية ، وفي التلطف إلى النفوس في بساطة ويسر ، وهو يتناول أكبر الحقائق في صورها القريبة الميسورة ..
إن هذا القرآن يجعل من مألوفات البشر وحوادثهم المكرورة ، قضايا كونية كبرى ؛ يكشف فيها عن النواميس الإلهية في الوجود ؛ وينشئ بها عقيدة ضخمة شاملة وتصورا كاملا لهذا الوجود. كما يجعل منها منهجا للنظر والتفكير ؛ وحياة للأرواح والقلوب ، ويقظة في المشاعر والحواس. يقظة لظواهر هذا الوجود التي تطالع الناس صباح مساء وهم غافلون عنها ؛ ويقظة لأنفسهم وما يجري من العجائب والخوارق فيها!
إنه لا يكل الناس إلى الحوادث الفذة الخارقة والمعجزات الخاصة المعدودة. كذلك لا يكلفهم أن يبحثوا عن الخوارق والمعجزات والآيات والدلائل بعيدا عن أنفسهم ، ولا عن مألوف حياتهم ، ولا عن الظواهر الكونية القريبة منهم المعروفة لهم .. إنه لا يبعد لهم في فلسفات معقدة ، أو مشكلات عقلية عويصة ، أو تجارب علمية لا يملكها كل أحد .. لكي ينشئ في نفوسهم عقيدة ، وتصورا للكون والحياة قائما على هذه العقيدة.
إن أنفسهم من صنع الله ؛ وظواهر الكون حولهم من إبداع قدرته. والمعجزة كامنة في كل ما تبدعه يده. وهذا القرآن قرآنه. ومن يأخذهم إلى هذه المعجزات الكامنة فيهم والمبثوثة في الكون من حولهم. يأخذهم إلى هذه الخوارق المألوفة لهم ، التي يرونها ولا يحسون حقيقة الإعجاز فيها. لأنهم لطول ألفتهم لها غفلوا عن مواضع الإعجاز فيها. يأخذهم إليها ليفتح عيونهم عليها ؛ فتطلع على السر الهائل المكنون فيها. سر القدرة المبدعة ، وسر الوحدانية المفردة ، وسر الناموس الأزلي الذي يعمل في كيانهم هم أنفسهم كما يعمل في الكون من حولهم ؛ والذي يحمل دلائل الإيمان ، وبراهين العقيدة ، فيبثها في كيانهم ، أو يوقظها في فطرتهم بتعبير أدق.
وعلى هذا المنهج يسير في هذا الشوط من السورة ؛ وهو يعرض عليهم آيات القدرة المبدعة في خلقهم هم أنفسهم. وفي زرعهم الذي تزاوله أيديهم. وفي الماء الذي يشربون. وفي النار التي يوقدون ـ وهي أبسط ما يقع تحت أبصارهم من مألوفات حياتهم ـ كذلك يصور لهم لحظة النهاية. نهاية الحياة على هذه الأرض وبدء الحياة في العالم الآخر. اللحظة التي يواجهها كل أحد ، والتي تنتهي عندها كل حيلة ، والتي تقف الأحياء وجها لوجه أمام القدرة المطلقة المتصرفة وقفة فاصلة ، لا محاولة فيها ولا مجال! حيث تسقط جميع الأقنعة ، وتبطل جميع التعلات.
إن طريقة القرآن في مخاطبة الفطرة البشرية تدل بذاتها على مصدره .. إنه المصدر الذي صدر منه الكون. فطريقة بنائه هي طريقة بناء الكون. فمن أبسط المواد الكونية تنشأ أعقد الأشكال ، وأضخم الخلائق .. الذرة يظن أنها مادة بناء الكون ، والخلية يظن أنها مادة بناء الحياة .. والذرة على صغرها معجزة في ذاتها. والخلية على ضآلتها آية في ذاتها .. وهنا في القرآن يتخذ من أبسط المشاهدات المألوفة للبشر مادة لبناء أضخم عقيدة دينية وأوسع تصور كوني .. المشاهدات التي تدخل في تجارب كل إنسان : النسل. والزرع. والماء. والنار. والموت .. أي إنسان على ظهر هذه الأرض لم تدخل هذه المشاهدات في تجاربه؟ أي ساكن كهف لم يشهد نشأة حياة جنينية ، ونشأة نبتة. ومسقط ماء. وموقد نار. ولحظة وفاة؟ .. من هذه المشاهدات التي رآها كل إنسان ينشئ القرآن العقيدة ، لأنه يخاطب كل إنسان في كل بيئة .. وهذه المشاهدات البسيطة الساذجة هي بذاتها أضخم الحقائق الكونية ، وأعظم الأسرار الربانية ـ بالإضافة إلى الإشارة إلى مواقع النجوم ـ فهي في بساطتها تخاطب فطرة كل إنسان. وهي في حقيقتها موضوع دراسة أعلم العلماء إلى آخر الزمان :