والمشاغل ، وفي طمأنينة على ما هم فيه من نعيم ، لا خوف من فوته ولا نفاده وفي إقبال بعضهم على بعض يتسامرون .. (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) .. لا يفعل فيهم الزمن ، ولا تؤثر في شبابهم وصباحتهم السن كأشباههم في الأرض. يطوفون عليهم (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) .. من خمر صافية سائغة (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ) .. فلا هم يفرقون عنها ولا هي تنفد من بين أيديهم. فكل شيء هنا للدوام والأمان. (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) .. فهنا لا شيء ممنوع ، ولا شيء على غير ما يشتهي السعداء الخالدون. (وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) .. واللؤلؤ المكنون هو اللؤلؤ المصون ، الذي لم يتعرض للمس والنظر ، فلم تثقبه يد ولم تخدشه عين! وفي هذا كناية عن معان حسية ونفسية لطيفة في هؤلاء الحور الواسعات العيون. وذلك كله : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) .. فهو مكافأة على عمل كان في دار العمل. مكافأة يتحقق فيها الكمال الذي كان ينقص كل المناعم في دار الفناء. ثم هم بعد ذلك كله يحيون في هدوء وسكون ، وفي ترفع وتنزيه عن كل لغو في الحديث ، وكل جدل وكل مؤاخذة : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلَّا قِيلاً : سَلاماً سَلاماً) .. حياتهم كلها سلام. يرف عليهاالسلام. ويشيع فيها السلام. تسلم عليهم الملائكة في ذلك الجو الناعم الآمن ؛ ويسلم بعضهم على بعض. ويبلغهم السلام من الرحمن. فالجو كله سلام سلام ..
فإذا انتهى الحديث عن ذلك الفريق السابق المختار ، بدأ الحديث عن الفريق الذي يليه : فريق أصحاب اليمين :
(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ. ما أَصْحابُ الْيَمِينِ؟ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ ، وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ. وَماءٍ مَسْكُوبٍ. وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ. وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ. إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً. فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً. عُرُباً أَتْراباً. لِأَصْحابِ الْيَمِينِ. ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) ..
وأصحاب اليمين هم أصحاب الميمنة الذين أشار إليهم تلك الإشارة المجملة في أول السورة. ثم أخر تفصيل نعيمهم ، إلى موعده هنا بعد السابقين المقربين. وهو يعيد السؤال عنهم بتلك الصيغة التي تفيد التفخيم والتهويل : (ما أَصْحابُ الْيَمِينِ؟) ..
ولأصحابنا هؤلاء نعيم مادي محسوس ، يبدو في أوصافه شيء من خشونة البداوة ، ويلبي هواتف أهل البداوة حسبما تبلغ مداركهم وتجاربهم من تصور ألوان النعيم!
إنهم (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) .. والسدر شجر النبق الشائك. ولكنه هنا مخضود شوكه ومنزوع. (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) .. والطلح شجر من شجر الحجاز من نوع العضاة فيه شوك. ولكنه هنا منضود معد للتناول بلا كد ولا مشقة. (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ، وَماءٍ مَسْكُوبٍ) .. وتلك جميعا من مراتع البدوي ومناعمه ، كما يطمح إليها خياله وتهتف بها أشواقه! (وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ. لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ) .. تركها مجملة شاملة بغير تفصيل بعد ما ذكر الأنواع المعروفة لسكان البادية بالتعيين. (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) .. وهي هنا لا موضونة ولا ناعمة. وبحسبها أنها مرفوعة. وللرفع في الحس معنيان. مادي ومعنوي يستدعي أحدهما الآخر ، ويلتقيان عند الارتفاع في المكان والطهارة من الدنس. فالمرفوع عن الأرض أبعد عن نجسها. والمرفوع في المعنى أبعد عن دنسها. ولهذا ينتقل السياق من الفرش المرفوعة إلى ذكر من فيها من الأزواج : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً) إما ابتداء وهن الحور. وإما استئنافا وهن الزوجات المبعوثات شواب : (فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) لم يمسسن (عُرُباً) .. متجبات إلى أزواجهن (أَتْراباً) متوافيات السن والشباب. (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) .. مخصصات لهم. ليتسق ذلك مع «الفرش المرفوعة» .. فأما أصحاب اليمين هؤلاء فهم (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) .. فهم أكثر عددا من السابقين المقربين.