ويكذب بها المشركون. وينتهي هذا المشهد الأول للواقعة لنشهد آثارها في الخفض والرفع ، وفي أقدار البشر ومصائرهم الأخيرة :
(وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً. فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ. ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ؟ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ. ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ؟ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ...)
ونجد الناس هنا أصنافا ثلاثة ـ لا صنفين اثنين كما هو السائد في مشاهد الاستعراض القرآنية ـ ويبدأ بالحديث عن أصحاب الميمنة ـ أو أصحاب اليمين ـ ولكنه لا يفصل عنهم الحديث إنما يصفهم باستفهام عنهم للتهويل والتضخيم : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ. ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ؟). وكذلك يذكر أصحاب المشأمة بنفس الأسلوب. ثم يذكر الفريق الثالث ، فريق السابقين ، يذكرهم فيصفهم بوصفهم : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) .. كأنما ليقول إنهم هم هم. وكفى. فهو مقام لا يزيده الوصف شيئا!
ومن ثم يأخذ في بيان قدرهم عند ربهم ، وتفصيل ما أعده من النعيم لهم ، وتعديد أنواعه التي يمكن أن يدركها حس المخاطبين ، وتتناوله معارفهم وتجاربهم :
(أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ. عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ. مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ. يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ. وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ. وَحُورٌ عِينٌ. كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ. جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلَّا قِيلاً : سَلاماً سَلاماً) ..
إنه يبدأ في بيان هذا النعيم ، بالنعيم الأكبر. النعيم الأسنى. نعيم القرب من ربهم : (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) .. وجنات النعيم كلها لا تساوي ذلك التقريب ، ولا تعدل ذلك النصيب.
ومن ثم يقف عند هذه الدرجة ليقول من هم أصحابها .. إنهم : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) .. فهم عدد محدود. وفريق منتقى. كثرتهم في الأولين وقلتهم في الآخرين. واختلفت الروايات في من هم الأولون ومن هم الآخرون. فالقول الأول : إن الأولين هم السابقون إلى الإيمان ذوو الدرجة العالية فيه من الأمم السابقة قبل الإسلام. وإن الآخرين هم السابقون إلى الإسلام ذوو البلاء فيه .. والقول الثاني : إن الأولين والآخرين هم من أمة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فالأولون من صدرها ، والآخرون من متأخريها. وهذا القول الثاني رجحه ابن كثير. وروى في ترجيحه للحسن وابن سيرين : قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد ابن الصباح ، حدثنا عفان ، حدثنا عبد الله بن أبي بكر المزني ، سمعت الحسن أتى على هذه الآية : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) فقال : «أما السابقون فقد مضوا ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين» .. ثم قال : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الوليد ، حدثنا السري بن يحيى. قال : قرأ الحسن : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ. ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ) .. قال : ثلة ممن مضى من هذه الأمة» .. وحدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة المنقري ، حدثنا أبو هلال ، عن محمد بن سيرين ، أنه قال في هذه الآية : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) .. قال : كانوا يقولون ، أو يرجون ، أن يكونوا كلهم من هذه الأمة.
وبعد بيان من هم يأخذ في تفصيل مناعم الجنة التي أعدت لهم. وهي بطبيعة الحال المناعم التي في طوقهم أن يتصوروها ويدركوها ؛ ووراءها مناعم أخرى يعرفونها هنالك يوم يتهيأون لإداركها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر!
(عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) .. مشبكة بالمعادن الثمينة. (مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ). في راحة وخلو بال من الهموم