الله. جل جلاله. الله القوي القادر ، القهار الجبار ، الكبير المتعال. الله ـ سبحانه ـ يفرغ لحساب هذين الخلقين الضعيفين الصغيرين : الجن والإنس ، في وعيد وانتقام!
إنه أمر. إنه هول. إنه فوق كل تصور واحتمال!
والله ـ سبحانه ـ ليس مشغو لا فيفرغ. وإنما هو تقريب الأمر للتصور البشري. وإيقاع الوعيد في صورة مذهلة مزلزلة ، تسحق الكيان بمجرد تصورها سحقا. فهذا الوجود كله نشأ بكلمة. كلمة واحدة. كن فيكون. وتدميره أو سحقه لا يحتاج إلا واحدة كلمح بالبصر .. فكيف يكون حال الثقلين ، والله يفرغ لهما وحدهما ، ليتولاهما بالانتقام؟!
وفي ظل هذا الهول الرعيب يسأل الثقلين المسكينين : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟)!
ثم يمضي في الإيقاع المرعب المزلزل ، يتحداهما أن ينفذا من أقطار السماوات والأرض :
(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) ..
وكيف؟ وأين؟
(لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ).
ولا يملك السلطان إلا صاحب السلطان ..
ومرة أخرى يواجههما بالسؤال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟
وهل بقي في كيانهما شيء يكذب أو يهم بمجرد النطق والبيان؟! ولكن الحملة الساحقة تستمر إلى نهايتها ، والتهديد الرعيب يلاحقهما ، والمصير المردي يتمثل لهما :
(يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) ..
(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟)!
إنها صورة من الهول فوق مألوف البشر ـ وفوق مألوف كل خلق ـ وفوق تصور البشر وتصور كل خلق. وهي صورة فريدة ، وردت لها نظائر قليلة في القرآن ، تشبهها ولا تماثلها. كما قال تعالى مرة : (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ) .. وكما قال : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) .. وما يزال قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) .. أعنف وأقوى وأرعب وأدهى ..
* * *
ومن هنا إلى نهاية السورة تبدأ مشاهد اليوم الآخر. مشهد الانقلاب الكوني يوم القيامة. وما يعقبه من مشاهد الحساب. ومشاهد العذاب والثواب.
ويبدأ استعراض هذه المشاهد بمشهد كوني يتناسب مع مطالع السورة ومجالها الكوني :
(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ).
وردة حمراء ، سائلة كالدهان .. ومجموع الآيات التي وردت في صفة الكون يوم القيامة تشير كلها إلى وقوع دمار كامل في هذه الأفلاك والكواكب ، بعد انفلاتها من النسق الذي يحكمها الآن ، وينسق بين مداراتها وحركاتها. منها هذه الآية. ومنها : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا ، وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا ، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) .. ومنها : (فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ، وَخَسَفَ الْقَمَرُ ، وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ) .. ومنها : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ، وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ، وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ. وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ. وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ. وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) ..