تشي كذلك بأن غموض مدلولات هذه التعبيرات هو الذي جعل المتعنتين يستترون وراءها ويسألون عنها!
وهكذا فسرها ابن عباس وابن عمر ـ رضي الله عنهم ـ ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي وغير واحد ؛ ولم يحك ابن جرير وابن أبي حاتم غير ذلك (كما قال ابن كثير).
أقسم الله ـ سبحانه ـ بالرياح التي تذرو ما تذروه من غبار وحبوب لقاح وسحب وغيرها مما يعلم الإنسان وما يجهل. وبالسحاب الحاملات وقرا من الماء يسوقها الله به إلى حيث يشاء. وبالسفن الجاريات في يسر على سطح الماء بقدرته وبما أودع الماء وأودع السفن وأودع الكون كله من خصائص تسمح بهذا الجريان اليسير. ثم بالملائكة المقسمات أمرا ، تحمل أوامر الله وتوزعها وفق مشيئته ، فتفصل في الشؤون المختصة بها ، وتقسم الأمور في الكون بحسبها.
والريح والسحاب والسفن والملائكة خلق من خلق الله ، يتخذها أداة لقدرته ، وستارا لمشيئته ، ويتحقق عن طريقها قدر الله في كونه وفي عباده. وهو يقسم بها ـ سبحانه ـ للتعظيم من شأنها ، وتوجيه القلوب إليها ، لتدبر ما وراءها من دلالة ؛ ولرؤية يد الله وهي تنشئها وتصرفها وتحقق بها قدر الله المرسوم. وذكرها على هذه الصورة بصفة خاصة يوجه القلب إلى أسرارها المكنونة ؛ ويعلقه بمبدع هذه الخلائق من وراء ذكرها هذا الذكر الموحي.
ثم لعل لها كذلك صلة من ناحية أخرى بموضوع الرزق ، الذي يعنى سياق هذه السورة بتحرير القلب من أوهاقه ، وإعفائه من أثقاله. فالرياح والسحب والسفن ظاهرة الصلة بالرزق ووسائله وأسبابه. أما الملائكة وتقسيمها للأمر ، فإن الرزق أحد هذه القسم. ومن ثم تتضح الصلة بين هذا الافتتاح وموضوع بارز تعالجه السورة في مواضع شتى.
يقسم الله ـ سبحانه ـ بهذه الخلائق الأربع على : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ. وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) .. وقد وعد الله الناس : أنه مجازيهم بالإحسان إحسانا ، ومجازيهم بالسوء سوءا. وأنه إذا أمهلهم الحساب في الأرض ، فليس بمهمل حسابهم في الآخرة فالحساب لا بد منه هناك! (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) .. فالوعد صادق حتما إما هنا وإما هناك .. ومما وعدهم كذلك الرزق وكفالته لهم مبسوطا أو مقدرا ـ وفق مشيئته ـ ووعده حق في هذا كما هو حق في كل شأن.
ولا بد أن يتحقق ما وعد الله به الناس في الصورة التي يريدها ، وفي الوقت الذي يريده ، وما يحتاج الأمر إلى قسم منه ـ سبحانه ـ إنما يقسم بخلائقه تلك لتوجيه القلب إليها ـ كما تقدم ـ وتدبر ما وراءها من إبداع وقدرة وتدبير يوحي للقلب بأن وعد الله ـ بارئ هذه الخلائق بهذا النظام وهذا التقدير ـ لا بد صادق ؛ وأن حسابه على الخير والشر والصلاح والفساد لا بد واقع. فإن طبيعة هذه الخلائق توحي بأن الأمر ليس عبثا ولا مصادفة ولا جزافا .. وهكذا تصبح تلك الخلائق آيات وبراهين ذات دلالة إيحائية قوية بفضل هذا القسم الذي يلفت القلب إليها لفتا ، ويوجه الحس إليها توجيها. فهي طريقة من طرق الإيحاء والتربية ، ومخاطبة الفطرة بلغة الكون خطابا مباشرا!
* * *
والقسم الثاني كذلك ..
(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ، إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) ..
يقسم بالسماء المنسقة المحكمة التركيب. كتنسيق الزرد المتشابك المتداخل الحلقات .. وقد تكون هذه إحدى