(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ..
وفي هذا كان الإيقاع الأخير البارز في السورة ، عن إرادة الله سبحانه في خلق الجن والإنس ، ووظيفتهما الرئيسية الأولى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) ..
فهو إيقاع واحد مطرد. ذو نغمات متعددة. ولكنها كلها تؤلف ذلك الإيقاع ، وتطلق ذلك الحداء. الحداء بالقلب البشري إلى السماء!
وقد وردت إشارات سريعة إلى حلقة من قصة إبراهيم ولوط ، وقصة موسى ، وقصة عاد ، وقصة ثمود ، وقصة قوم نوح. وفي الإشارة إلى قصة إبراهيم تلك اللمحة عن المال ؛ كما أن فيها لمحة عن الغيب المكنون في تبشيره بغلام عليم ، ورزقه هو وامرأته به على غير ما توقع ولا انتظار. وفي بقية القصص إشارة إلى تصديق وعد الله الذي أقسم عليه في أول السورة : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) والذي أشار إليه في ختامها إنذارا للمشركين : (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) .. بعد ما ذكر أن أجيال المكذبين كأنما تواصت على التكذيب : (كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا : ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَواصَوْا بِهِ؟ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ!) ..
فالقصص في السورة ـ على هذا النحو ـ مرتبط بموضوعها الأصيل. وهو تجريد القلب لعبادة الله ، وتخليصه من جميع العوائق ، ووصله بالسماء. بالإيمان أولا واليقين. ثم برفع الحواجز والشواغل دون الرفرفة والانطلاق إلى ذلك الأفق الكريم.
* * *
(وَالذَّارِياتِ ذَرْواً ، فَالْحامِلاتِ وِقْراً ، فَالْجارِياتِ يُسْراً ، فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً .. إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ ، وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) ..
هذه الإيقاعات القصيرة السريعة ، بتلك العبارات الغامضة الدلالة ، تلقي في الحس ـ كما تقدم ـ إيحاء خاصا ، وتلقي ظلا معينا ، يعلق القلب بأمر ذي بال ، وشأن يستحق الانتباه. وقد احتاج غير واحد في العهد الأول أن يستفسر عن مدلول الذاريات ، والحاملات ، والجاريات ، والمقسمات ..
قال ابن كثير في التفسير : قال شعبة بن الحجاج ، عن سماك بن خالد بن عرعرة ، أنه سمع عليا ـ رضي الله عنه ـ وشعبة أيضا عن القاسم بن أبي بزة ، عن أبي الطفيل ، أنه سمع عليا ـ رضي الله عنه ـ وثبت أيضا من غير وجه عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أنه صعد منبر الكوفة فقال : لا تسألوني عن آية في كتاب الله تعالى ولا عن سنة عن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلا أنبأتكم بذلك. فقام ابن الكواء ، فقال : يا أمير المؤمنين ، ما معنى قوله تعالى : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً)؟ قال علي ـ رضي الله عنه : الريح. قال : (فَالْحامِلاتِ وِقْراً)؟ قال ـ رضي الله عنه ـ : السحاب. قال : (فَالْجارِياتِ يُسْراً)؟ قال ـ رضي الله عنه ـ : السفن. قال : (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً)؟ قال ـ رضي الله عنه ـ : الملائكة.
وجاء صبيغ بن عسل التميمي إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فسأله عنها فأجابه بمثل ما روي عن علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ وقد أحس عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه يسأل عنها تعنتا وعنادا فعاقبه ومنعه من مجالسة الناس حتى تاب وحلف بالأيمان المغلظة : ما يجد في نفسه مما كان يجد شيئا .. وهذه الرواية