ثم يكشف عن طبيعة هذا الإنسان الذي يعارض ويعاند ، ويعرض نفسه للأذى والعذاب ، وهو لا يحتمل في نفسه الأذى ؛ وهو رقيق الاحتمال ، يستطار بالنعمة ، ويجزع من الشدة ، ويتجاوز حده فيكفر من الضيق :
(وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) ..
ويعقب على هذا بأن نصيب هذا الإنسان من السراء والضراء ومن العطاء والحرمان كله بيد الله. فما لهذا الإنسان المحب للخير الجزوع من الشر ، يبعد عن الله المالك لأمره في جميع الأحوال :
(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، يَخْلُقُ ما يَشاءُ ، يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً ، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً ، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً ، إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) ..
والذرية مظهر من مظاهر المنح والمنع والعطاء والحرمان ؛ وهي قريبة من نفس الإنسان ؛ والنفس شديدة الحساسية بها. فلمسها من هذا الجانب أقوى وأعمق. وقد سبق في السورة حديث عن الرزق بسطه وقبضه. فهذه تكملة في الرزق بالذرية. وهي رزق من عند الله كالمال.
والتقديم بأن لله ملك السماوات والأرض هو التقديم المناسب لكل جزئية بعد ذلك من توابع هذا الملك العام. وكذلك ذكر : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) .. فهي توكيد للإحياء النفسي المطلوب في هذا الموضع. ورد الإنسان ، المحب للخير ، إلى الله الذي يخلق ما يشاء مما يسرّ وما يسوء ومن عطاء أو حرمان.
ثم يفصل حالات العطاء والحرمان : فهو يهب لمن يشاء إناثا (وهم كانوا يكرهون الإناث) ويهب لمن يشاء الذكور. ويهب لمن يشاء أزواجا من هؤلاء وهؤلاء. ويحرم من يشاء فيجعله عقيما (والعقم يكرهه كل الناس) .. وكل هذه الأحوال خاضعة لمشيئة الله. لا يتدخل فيها أحد سواه. وهو يقدرها وفق علمه وينفذها بقدرته : (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) ..
* * *
وفي ختام السورة يعود السياق إلى الحقيقة الأولى التي تدور عليها السورة. حقيقة الوحي والرسالة. يعود إلى هذه الحقيقة ليكشف عن طبيعة هذا الاتصال بين الله والمختارين من عباده ، وفي أية صورة يكون. ويؤكد أنه قد وقع فعلا إلى الرسول الأخير ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لغاية يريدها الله سبحانه. ليهدي من يشاء إلى صراط مستقيم :
(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ. وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا ، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ. أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) ..
ويقطع هذا النص بأنه ليس من شأن إنسان أن يكلمه الله مواجهة. وقد روي عن عائشة رضي الله عنها : «من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية» (١) إنما يتم كلام الله للبشر بواحدة من ثلاث : «وحيا» يلقى في النفس مباشرة فتعرف أنه من الله ، (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) .. كما كلم الله موسى ـ عليهالسلام ـ وحين طلب الرؤية لم يجب إليها ، ولم يطق تجلي الله على الجبل (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ : سُبْحانَكَ
__________________
(١) متفق عليه.