زاد الرحلة الأصيل.
ومجموعة صفات المؤمنين ترسم طابعا مميزا للجماعة التي تقود البشرية وترجو ما عند الله وهو خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ..
* * *
وبعد تقرير صفة المؤمنين الذين يدخر الله لهم عنده ما هو خير وأبقى ، يعرض في الصفحة المقابلة صورة الظالمين الضالين ، وما ينتظرهم من ذل وخسران :
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ ؛ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ : هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ؟ وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ ، يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ ، وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا : إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ؛ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ ، وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) ..
إن قضاء الله لا يرد ، ومشيئته لا معقب عليها (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) .. فإذا علم الله من حقيقة العبد أنه مستحق للضلال ، فحقت عليه كلمة الله أن يكون من أهل الضلال ، لم يكن له بعد ذلك من ولي يهديه من ضلاله ، أو ينصره من جزاء الضلال الذي قدره الله .. والذي يعرض منه مشهدا في بقية الآية : (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ : هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ، وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ ، يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) ..
والظالمون كانوا طغاة بغاة ، فناسب أن يكون الذل هو مظهرهم البارز في يوم الجزاء. إنهم يرون العذاب ، فتتهاوى كبرياؤهم. ويتساءلون في انكسار : (هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ؟) في هذه الصيغة الموحية باليأس مع اللهفة ، والانهيار مع التطلع إلى أي بارقة للخلاص. وهم يعرضون على النار (خاشِعِينَ) لا من التقوى ولا من الحياء ، ولكن من الذل والهوان! وهم يعرضون منكسي الأبصار ، لا يرفعون أعينهم من الذل والعار : (يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) .. وهي صورة شاخصة ذليلة.
وفي هذا الوقت يبدو أن الذين آمنوا هم سادة الموقف ؛ فهم ينطقون ويقررون : (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا : إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) .. وهم هؤلاء الذين خسروا كل شيء ، والذين يقفون خاشعين من الذل يقولون : هل إلى مرد من سبيل؟
ويجيء التعليق العام على المشهد بيانا لمآل هؤلاء المعروضين على النار :
(أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ. وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ. وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) ..
فقد عدم النصير ، وقد أغلق السبيل.
* * *
وفي ظل هذا المشهد يوجه الخطاب إلى المعاندين المكابرين ، ليستجيبوا لربهم قبل أن يفجأهم مثل هذا المصير فلا يجدوا لهم ملجأ يقيهم ، ولا نصيرا ينكر مصيرهم الأليم ، ويوجه الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إلى التخلي عنهم إذا هم أعرضوا فلم يستجيبوا لهذا النذير ؛ فما عليه إلا البلاغ ، وما هو مكلف بهم ولا كفيل : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ، ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ. فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) ..