يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) ..
هذه الآيات الأربع تصور منطق الإيمان الصحيح ، في بساطته وقوته ، ووضوحه ، وعمقه. كما هو في قلب رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وكما ينبغي أن يكون في قلب كل مؤمن برسالة ، وكل قائم بدعوة. وهي وحدها دستوره الذي يغنيه ويكفيه ، ويكشف له الطريق الواصل الثابت المستقيم.
وقد ورد في سبب نزولها أن مشركي قريش كانوا يخوفون رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من آلهتهم ، ويحذرونه من غضبها ، وهو يصفها بتلك الأوصاف المزرية بها ، ويوعدونه بأنه إن لم يسكت عنها فستصيبه بالأذى ..
ولكن مدلول هذه الآيات أوسع وأشمل. فهي تصور حقيقة المعركة بين الداعية إلى الحق وكل ما في الأرض من قوى مضادة. كما تصور الثقة واليقين والطمأنينة في القلب المؤمن ، بعد وزن هذه القوى بميزانها الصحيح.
(أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ)؟
بلى! فمن ذا يخيفه ، وماذا يخيفه؟ إذا كان الله معه؟ وإذا كان هو قد اتخذ مقام العبودية وقام بحق هذا المقام؟ ومن ذا يشك في كفاية الله لعبده وهو القوي القاهر فوق عباده؟
(وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) ..
فكيف يخاف؟ والذين من دون الله لا يخيفون من يحرسه الله. وهل في الأرض كلها إلا من هم دون الله؟
إنها قضية بسيطة واضحة ، لا تحتاج إلى جدل ولا كد ذهن .. إنه الله. ومن هم دون الله. وحين يكون هذا هو الموقف لا يبقى هنالك شك ولا يكون هناك اشتباه.
وإرادة الله هي النافذة ومشيئته هي الغالبة. وهو الذي يقضي في العباد قضاءه. في ذوات أنفسهم ، وفي حركات قلوبهم ومشاعرهم :
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ. وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ) ..
وهو يعلم من يستحق الضلالة فيضله ، ومن يستحق الهدى فيهديه. فإذا قضى بقضائه هكذا أو هكذا فلا مبدل لما يشاء.
(أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ؟)
بلى. وإنه لعزيز قوي. وإنه ليجازي كلا بما يستحق. وإنه لينتقم ممن يستحق الانتقام. فكيف يخشى أحدا أو شيئا من يقوم بحق العبودية له ، وهو كافله وكافيه؟
ثم يقرر هذه الحقيقة في صورة أخرى منتزعة من منطقهم هم أنفسهم ، ومن واقع ما يقررونه من حقيقة الله في فطرتهم :
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ؟ لَيَقُولُنَّ اللهُ. قُلْ. أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ؟ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ؟ قُلْ : حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) ..
لقد كانوا يقررون ـ حين يسألون ـ أن الله هو خالق السماوات والأرض. وما تملك فطرة أن تقول غير هذا ، وما يستطيع عقل أن يعلل نشأة السماوات والأرض إلا بوجود إرادة عليا. فهو يأخذهم ويأخذ العقلاء جميعا بهذه الحقيقة الفطرية الواضحة .. إذا كان الله هو خالق السماوات والأرض. فهل يملك أحد أو شيء في هذه