ثم يعرض مشهد الخسران المبين :
(لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ. ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ. يا عِبادِ فَاتَّقُونِ) ..
وهو مشهد رعيب حقا. مشهد النار في هيئة ظلل من فوقهم وظلل من تحتهم ، وهم في طيات هذه الظلل المعتمة تلفهم وتحتوي عليهم. وهي من النار!
إنه مشهد رعيب. يعرضه الله لعباده وهم بعد في الأرض يملكون أن ينأوا بأنفسهم عن طريقه. ويخوفهم مغبته لعلهم يجتنبونه :
(ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ) ..
ويناديهم ليحذروا ويتقوا ويسلموا :
(يا عِبادِ فَاتَّقُونِ).
وعلى الضفة الأخرى يقف الناجون ، الذين خافوا هذا المصير المشئوم :
(وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى. فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ، أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ. وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) ..
والطاغوت صياغة من الطغيان ؛ نحو ملكوت وعظموت ورحموت. تفيد المبالغة والضخامة. والطاغوت كل ما طغا وتجاوز الحد. والذين اجتنبوا عبادتها هم الذين اجتنبوا عبادة غير المعبود في أية صورة من صور العبادة. وهم الذين أنابوا إلى ربهم. وعادوا إليه ، ووقفوا في مقام العبودية له وحده.
هؤلاء (لَهُمُ الْبُشْرى) صادرة إليهم من الملأ الأعلى. والرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يبلغها لهم بأمر الله : (فَبَشِّرْ عِبادِ) .. إنها البشرى العلوية يحملها إليهم رسول كريم. وهذا وحده نعيم!
هؤلاء من صفاتهم أنهم يستمعون ما يستمعون من القول ، فتلتقط قلوبهم أحسنه وتطرد ما عداه ، فلا يلحق بها ولا يلصق إلا الكلم الطيب ، الذي تزكو به النفوس والقلوب .. والنفس الطيبة تتفتح للقول الطيب فتتلقاه وتستجيب له. والنفس الخبيثة لا تتفتح إلا للخبيث من القول ولا تستجيب إلا له.
(أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) ..
فقد علم الله في نفوسهم خيرا فهداهم إلى استماع أحسن القول والاستجابة له. والهدى هدى الله.
(وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) ..
فالعقل السليم هو الذي يقود صاحبه إلى الزكاة ، وإلى النجاة. ومن لا يتبع طريق الزكاة والنجاة فكأنه مسلوب العقل محروم من هذه النعمة التي أعطاها له الله.
وقبل أن يعرض مشهد هؤلاء في نعيمهم في الآخرة يقرر أن عبدة الطاغوت قد وصلوا فعلا إلى النار. وأن أحدا لا يملك أن ينقذهم من هذه النار :
(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ؟) ..
والخطاب لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وإذا كان هو لا يملك إنقاذهم من النار التي هم فيها فمن يملكها إذن سواه؟
وأمام مشهد هؤلاء في النار ـ وكأنهم فيها فعلا الآن. مادام قد حق عليهم العذاب ـ يعرض مشهد الذين اتقوا