ويغلب على
القصص كما يغلب على السورة كلها جو الإنذار والتكذيب ، والعذاب الذي يتبع التكذيب.
ذلك أن السورة تواجه تكذيب مشركي قريش لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ واستهزاءهم بالنذر ، وإعراضهم عن آيات الله ،
واستعجالهم بالعذاب الذي يوعدهم به ؛ مع التقول على الوحي والقرآن ؛ والادعاء بأنه
سحر أو شعر تتنزل به الشياطين!
والسورة كلها
شوط واحد ـ مقدمتها وقصصها وتعقيبها ـ في هذا المضمار. لذلك نقسمها إلى فقرات أو
جولات بحسب ترتيبها. ونبدأ بالمقدمة قبل القصص المختار :
* * *
(طسم. تِلْكَ آياتُ
الْكِتابِ الْمُبِينِ) ..
طا. سين. ميم
.. الأحرف المقطعة للتنبيه إلى أن آيات الكتاب المبين ـ ومنها هذه السورة ـ مؤلفة
من مثل هذه الأحرف ؛ وهي في متناول المكذبين بالوحي ؛ وهم لا يستطيعون أن يصوغوا
منها مثل هذا الكتاب المبين. والحديث عن هذا الكتاب متداول في السورة. في مقدمتها
ونهايتها. كما هو الشأن في السور المبدوءة بالأحرف المقطعة في القرآن.
وبعد هذا
التنبيه يبدأ في مخاطبة رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ الذي يهمه أمر المشركين ويؤذيه تكذيبهم له وللقرآن
الكريم ؛ فيسليه ويهون عليه الأمر ؛ ويستكثر ما يعانيه من أجلهم ؛ وقد كان الله
قادرا على أن يلوي أعناقهم كرها إلى الإيمان ، بآية قاهرة تقسرهم عليه قسرا :
(لَعَلَّكَ باخِعٌ
نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ! إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ
السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ).
وفي التعبير ما
يشبه العتب على شدة ضيقه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وهمه بعدم إيمانهم : (لَعَلَّكَ باخِعٌ
نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) .. وبخع النفس قتلها. وهذا يصور مدى ما كان رسول الله ـ
صلىاللهعليهوسلم ـ يعاني من تكذيبهم ، وهو يوقن بما ينتظرهم بعد التكذيب
، فتذوب نفسه عليهم ـ وهم أهله وعشيرته وقومه ـ ويضيق صدره. فربه يرأف به ،
وينهنهه عن هذا الهم القاتل ، ويهون عليه الأمر ، ويقول له : إن إيمانهم ليس مما
كلفت ؛ ولو شئنا أن نكرههم عليه لأكرهناهم ، ولأنزلنا من السماء آية قاهرة لا
يملكون معها جدالا ، ولا انصرافا عن الإيمان. ويصور خضوعهم لهذه الآية صورة حسية :
(فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ
لَها خاضِعِينَ) ملوية محنية حتى لكأن هذه هيئة لهم لا تفارقهم ، فهم
عليها مقيمون!
ولكنه ـ سبحانه
ـ لم يشأ أن يجعل مع هذه الرسالة الأخيرة آية قاهرة. لقد جعل آيتها القرآن. منهاج
حياة كاملة. معجزا في كل ناحية :
معجزا في بنائه
التعبيري وتنسيقه الفني ، باستقامته على خصائص واحدة ، في مستوى واحد ، لا يختلف
ولا يتفاوت ، ولا تتخلف خصائصه ؛ كما هي الحال في أعمال البشر. إذ يبدو الارتفاع
والانخفاض والقوة والضعف في عمل الفرد الواحد ، المتغير الحالات. بينما تستقيم
خصائص هذا القرآن التعبيرية على نسق واحد ، ومستوى واحد ، ثابت لا يتخلف ، يدل على
مصدره الذي لا تختلف عليه الأحوال.
معجزا في بنائه
الفكري ، وتناسق أجزائه وتكاملها ، فلا فلتة فيه ولا مصادفة. كل توجيهاته
وتشريعاته تلتقي وتتناسق وتتكامل ؛ وتحيط بالحياة البشرية ، وتستوعبها ، وتلبيها
وتدفعها ، دون أن تتعارض جزئية واحدة من ذلك المنهاج الشامل الضخم مع جزئية أخرى ؛
ودون أن تصطدم واحدة منها بالفطرة الإنسانية أو تقصر عن تلبيتها .. وكلها مشدودة
إلى محور واحد ، وإلى عروة واحدة ، في اتساق لا يمكن أن تفطن