إليه خبرة الإنسان المحدودة. ولا بد أن تكون هناك خبرة مطلقة ، غير مقيدة بقيود الزمان والمكان. هي التي أحاطت به هذه الإحاطة ، ونظمته هذا التنظيم.
معجزا في يسر مداخله إلى القلوب والنفوس ، ولمس مفاتيحها ، وفتح مغاليقها ، واستجاشة مواضع التأثر والاستجابة فيها ؛ وعلاجه لعقدها ومشكلاتها في بساطة ويسر عجيبين ؛ وفي تربيتها وتصريفها وفق منهجه بأيسر اللمسات ، دون تعقيد ولا التواء ولا مغالطة.
لقد شاء الله أن يجعل هذا القرآن هو معجزة هذه الرسالة ـ ولم يشأ أن ينزل آية قاهرة مادية تلوي الأعناق وتخضعها وتضطرها إلى التسليم ـ ذلك أن هذه الرسالة الأخيرة رسالة مفتوحة للأمم كلها ، وللأجيال كلها. وليست رسالة مغلقة على أهل زمان أو أهل مكان. فناسب أن تكون معجزتها مفتوحة كذلك للبعيد والقريب. لكل أمة ولكل جيل. والخوارق القاهرة لا تلوي إلا أعناق من يشاهدونها ؛ ثم تبقى بعد ذلك قصة تروى ، لا واقعا يشهد .. فأما القرآن فها هو ذا بعد أكثر من ثلاثة عشر قرنا كتاب مفتوح ومنهج مرسوم ، يستمد منه أهل هذا الزمان ما يقوم حياتهم ـ لو هدوا إلى اتخاذه إمامهم ـ ويلبي حاجاتهم كاملة ؛ ويقودهم بعدها إلى عالم أفضل ، وأفق أعلى ، ومصير أمثل. وسيجد فيه من بعدنا كثيرا مما لم نجده نحن ؛ ذلك أنه يعطي كل طالب بقدر حاجته ؛ ويبقى رصيده لا ينفد ، بل يتجدد. ولكن لم يكونوا يفطنون إلى هذه الحكمة الكبرى. فكانوا يعرضون عما يتنزل عليهم من هذا القرآن العظيم حينا بعد حين :
(وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) ..
ويذكر اسم الرحمن هنا للإشارة إلى عظيم رحمته بتنزيل هذا الذكر ، فيبدو إعراضهم عنه مستقبحا كريها ؛ وهم يعرضون عن الرحمة التي تتنزل عليهم ، ويرفضونها ، ويحرمون أنفسهم منها ، وهم أحوج ما يكونون إليها!
ويعقب على هذا الإعراض عن ذكر الله ورحمته بالتهديد بعقابه وعذابه :
(فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ..
وهو تهديد مضمر مجمل مهول. وفي التعبير سخرية تناسب استهزاءهم بالوعيد. (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) .. ستأتيهم أخبار العذاب الذي يستهزئون به! وهم لن يتلقوا أخبارا. إنما سيذوقون العذاب ذاته ، ويصبحون هم أخبارا فيه ، يتناقل الناس ما حل بهم منه. ولكنهم يستهزئون فيستهزأ بهم مع التهديد المرهوب! وإنهم يطلبون آية خارقة ؛ ويغفلون عن آيات الله الباهرة فيما حولهم ؛ وفيها الكفاية للقلب المفتوح والحس البصير ؛ وكل صفحة من صفحات هذا الكون العجيب آية تطمئن بها القلوب.
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ؟ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ، وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) ..
ومعجزة إخراج النبات الحي من الأرض ، وجعله زوجا ذكرا وأنثى ، إما منفصلين كما في بعض فصائل النبات ، وإما مجتمعين كما هو الغالب في عالم النبات ، حيث تجتمع أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث في عود واحد .. هذه المعجزة تتكرر في الأرض حولهم في كل لحظة : (أَوَلَمْ يَرَوْا!) والأمر لا يحتاج إلى أكثر من الرؤية؟
والمنهج القرآني في التربية يربط بين القلب ومشاهد هذا الكون ؛ وينبه الحس الخامد ، والذهن البليد ، والقلب المغلق ، إلى بدائع صنع الله المبثوثة حول الإنسان في كل مكان ؛ كي يرتاد هذا الكون الحي بقلب حي ؛ يشاهد الله في بدائع صنعه ، ويشعر به كلما وقعت عينه على بدائعه ؛ ويتصل به في كل مخلوقاته ؛