الخير وأهل الخير ، لا ينالهم منهم إلا سلاطة اللسان!
(أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) ..
فهذه هي العلة الأولى. العلة أن قلوبهم لم تخالطها بشاشة الإيمان ، ولم تهتد بنوره ، ولم تسلك منهجه. (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) .. ولم ينجحوا لأن عنصر النجاح الأصيل ليس هناك.
(وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) ..
وليس هنالك عسير على الله ، وكان أمر الله مفعولا ..
فأما يوم الأحزاب فيمضي النص في تصويرهم صورة مضحكة زرية :
(يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) ..
فهم ما يزالون يرتعشون ، ويتخاذلون ، ويخذّلون! ويأبون أن يصدقوا أن الأحزاب قد ذهبت ، وأنه قد ذهب الخوف ، وجاء الأمان!
(وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) ..
يا للسخرية! ويا للتصوير الزري! ويا للصورة المضحكة! وإن يأت الأحزاب يود هؤلاء الجبناء لو أنهم لم يكونوا من أهل المدينة يوما من الأيام. ويتمنون أن لو كانوا من أعراب البادية ، لا يشاركون أهل المدينة في حياة ولا في مصير. ولا يعلمون ـ حتى ـ ما يجري عند أهلها. إنما هم يجهلونه ، ويسألون عنه سؤال الغريب عن الغريب! مبالغة في البعد والانفصال ، والنجاة من الأهوال!
يتمنون هذه الأمنيات المضحكة ، مع أنهم قاعدون ، بعيدون عن المعركة ، لا يتعرضون لها مباشرة ؛ إنما هو الخوف من بعيد! والفزع والهلع من بعيد! (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) ..
وبهذا الخط ينتهي رسم الصورة. صورة ذلك النموذج الذي كان عائشا في الجماعة الإسلامية الناشئة في المدينة ؛ والذي ما يزال يتكرر في كل جيل وكل قبيل. بنفس الملامح ، وذات السمات .. ينتهي رسم الصورة وقد تركت في النفوس الاحتقار لهذا النموذج ، والسخرية منه ، والابتعاد عنه ، وهوانه على الله وعلى الناس.
* * *
ذلك كان حال المنافقين والذين في قلوبهم مرض والمرجفين في الصفوف ، وتلك كانت صورتهم الرديئة. ولكن الهول والكرب والشدة والضيق لم تحول الناس جميعا إلى هذه الصورة الرديئة .. كانت هنالك صورة وضيئة في وسط الظلام ، مطمئنة في وسط الزلزال ، واثقة بالله ، راضية بقضاء الله ، مستيقنة من نصر الله ، بعد كل ما كان من خوف وبلبلة واضطراب.
ويبدأ السياق هذه الصورة الوضيئة برسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم.
(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ، وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) ..
وقد كان رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ على الرغم من الهول المرعب والضيق المجهد ، مثابة الأمان للمسلمين ، ومصدر الثقة والرجاء والاطمئنان. وإن دراسة موقفه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في هذا الحادث الضخم لما يرسم لقادة الجماعات والحركات طريقهم ؛ وفيه أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ؛ وتطلب نفسه القدوة الطيبة ؛ ويذكر الله ولا ينساه.