ويحسن أن نلم بلمحات من هذا الموقف على سبيل المثال. إذ كنا لا نملك هنا أن نتناوله بالتفصيل.
خرج رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ يعمل في الخندق مع المسلمين. يضرب بالفأس ، ويجرف التراب بالمسحاة ، ويحمل التراب في المكتل. ويرفع صوته مع المرتجزين ، وهم يرفعون أصواتهم بالرجز في أثناء العمل ، فيشاركهم الترجيع! وقد كانوا يتغنون بأغان ساذجة من وحي الحوادث الجارية : كان هناك رجل من المسلمين اسمه جعيل ، فكره رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ اسمه ، وسماه عمرا. فراح العاملون في الخندق يغنون جماعة بهذا الرجز الساذج :
سماه من بعد جعيل عمرا |
|
وكان للبائس يوما ظهرا |
فإذا مروا في ترجيعهم بكلمة «عمرو» ، قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «عمرا». وإذا مروا بكلمة «ظهر» قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «ظهرا».
ولنا أن نتصور هذا الجو الذي يعمل فيه المسلمون ، والرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بينهم ، يضرب بالفأس ، ويجرف بالمسحاة ، ويحمل في المكتل ، ويرجع معهم هذا الغناء. ولنا أن نتصور أية طاقة يطلقها هذا الجو في أرواحهم ؛ وأي ينبوع يتفجر في كيانهم بالرضى والحماسة والثقة والاعتزاز.
وكان زيد بن ثابت فيمن ينقل التراب. فقال ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أما إنه نعم الغلام! وغلبته عيناه فنام في الخندق. وكان القر شديدا. فأخذ عمارة بن حزم سلاحه ، وهو لا يشعر. فلما قام فزع. فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «يا أبا رقاد! نمت حتى ذهب سلاحك»! ثم قال : «من له علم بسلاح هذا الغلام»؟ فقال عمارة : يا رسول الله هو عندي. فقال : فرده عليه. ونهى أن يروع المسلم ويؤخذ متاعه لاعبا!
وهو حادث كذلك يصور يقظة العين والقلب ، لكل من في الصف ، صغيرا أو كبيرا. كما يصور روح الدعابة الحلوة الحانية الكريمة : «يا أبا رقاد! نمت حتى ذهب سلاحك!» ويصور في النهاية ذلك الجو الذي كان المسلمون يعيشون فيه في كنف نبيهم ، في أحرج الظروف ..
ثم كانت روحه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ تستشرف النصر من بعيد ، وتراه رأي العين في ومضات الصخور على ضرب المعاول ؛ فيحدث بها المسلمين ، ويبث فيهم الثقة واليقين.
قال ابن إسحاق : وحدثت عن سلمان الفارسي أنه قال : ضربت في ناحية من الخندق ، فغلظت عليّ صخرة ، ورسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قريب مني. فلما رآني أضرب ، ورأى شدة المكان عليّ ، نزل فأخذ المعول من يدي ، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة. قال : ثم ضرب به ضربة أخرى ، فلمعت تحته برقة أخرى. قال : ثم ضرب به الثالثة ، فلمعت تحته برقة أخرى. قال : قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما هذا الذي رأيت ، لمع المعول وأنت تضرب؟ قال : «أو قد رأيت ذلك يا سلمان»؟ قال : قلت. نعم : قال : «أما الأولى فإن الله فتح عليّ بها اليمن. وأما الثانية فإن الله فتح عليّ بها الشام والمغرب. وأما الثالثة فإن الله فتح عليّ بها المشرق» ..
وجاء في «إمتاع الأسماع للمقريزي» أن هذا الحادث وقع لعمر بن الخطاب بحضور سلمان. رضي الله عنهما.
ولنا أن نتصور اليوم كيف يقع مثل هذا القول في القلوب ، والخطر محدق بها محيط.
ولنا أن نضيف إلى تلك الصور الوضيئة صورة حذيفة عائدا من استطلاع خبر الأحزاب ؛ وقد أخذه القر