إلى دورنا ، فنمنع ذرارينا ونساءنا. فأذن لهم ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فبلغ سعد بن معاذ ذلك فقال : يا رسول الله لا تأذن لهم. إنا والله ما أصابنا وإياهم شدة إلا صنعوا هكذا .. فردهم ..
فهكذا كان أولئك الذين يجبهم القرآن بأنهم : (إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) ..
* * *
ويقف السياق عند هذه اللقطة الفنية المصورة لموقف البلبلة والفزع والمراوغة. يقف ليرسم صورة نفسية لهؤلاء المنافقين والذين في قلوبهم مرض. صورة نفسية داخلية لوهن العقيدة ، وخور القلب ، والاستعداد للانسلاخ من الصف بمجرد مصادفة غير مبقين على شيء ، ولا متجملين لشيء :
(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها ، وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) ..
ذلك كان شأنهم والأعداء بعد خارج المدينة ؛ ولم تقتحم عليهم بعد. ومهما يكن الكرب والفزع ، فالخطر المتوقع غير الخطر الواقع ، فأما لو وقع واقتحمت عليهم المدينة من أطرافها .. (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) وطلبت إليهم الردة عن دينهم (لَآتَوْها) سراعا غير متلبثين ، ولا مترددين (إِلَّا قَلِيلاً) من الوقت ، أو إلا قليلا منهم يتلبثون شيئا ما قبل أن يستجيبوا ويستسلموا ويرتدوا كفارا! فهي عقيدة واهنة لا تثبت ؛ وهو جبن غامر لا يملكون معه مقاومة!
هكذا يكشفهم القرآن ؛ ويقف نفوسهم عارية من كل ستار .. ثم يصمهم بعد هذا بنقض العهد وخلف الوعد. ومع من؟ مع الله الذي عاهدوه من قبل على غير هذا ؛ ثم لم يرعوا مع الله عهدا :
(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ. وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً).
قال ابن هشام من رواية ابن إسحاق في السيرة : هم بنو حارثة ، وهم الذين هموا أن يفشلوا يوم أحد مع بني سلمة حين همتا بالفشل يومها. ثم عاهدوا الله ألا يعودوا لمثلها أبدا. فذكر لهم الذي أعطوا من أنفسهم.
فأما يوم أحد فقد تداركهم الله برحمته ورعايته ، وثبتهم ، وعصمهم من عواقب الفشل. وكان ذلك درسا من دروس التربية في أوائل العهد بالجهاد. فأما اليوم ، وبعد الزمن الطويل ، والتجربة الكافية ، فالقرآن يواجههم هذه المواجهة العنيفة.
* * *
وعند هذا المقطع ـ وهم أمام العهد المنقوض ابتغاء النجاة من الخطر والأمان من الفزع ـ يقرر القرآن إحدى القيم الباقية التي يقررها في أوانها ؛ ويصحح التصور الذي يدعوهم إلى نقض العهد والفرار :
(قُلْ : لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ ؛ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً. قُلْ : مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً ؛ وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) ..
إن قدر الله هو المسيطر على الأحداث والمصائر ، يدفعها في الطريق المرسوم ، وينتهي بها إلى النهاية المحتومة. والموت أو القتل قدر لا مفر من لقائه ، في موعده ، لا يستقدم لحظة ولا يستأخر. ولن ينفع الفرار في دفع القدر المحتوم عن فارّ. فإذا فروا فإنهم ملاقون حتفهم المكتوب ، في موعده القريب. وكل موعده في الدنيا قريب ، وكل متاع فيها قليل ولا عاصم من الله ولا من يحول دون نفاذ مشيئته. سواء أراد بهم سوءا أم أراد بهم رحمة ، ولا مولى لهم ولا نصير ، من دون الله ، يحميهم ويمنعهم من قدر الله.
فالاستسلام الاستسلام. والطاعة الطاعة. والوفاء الوفاء بالعهد مع الله ، في السراء والضراء. ورجع