قائمة الکتاب

    إعدادات

    في هذا القسم، يمكنك تغيير طريقة عرض الكتاب
    بسم الله الرحمن الرحيم

    في ظلال القرآن [ ج ٥ ]

    في ظلال القرآن [ ج ٥ ]

    293/699
    *

    حادث ؛ ويرتب تأثراتها واستجاباتها وفق منهجه الذي يريد.

    ولم يترك المسلمون لهذا القرآن ، يتنزل بالأوامر والنواهي ، وبالتشريعات والتوجيهات جملة واحدة ؛ إنما أخذهم الله بالتجارب والابتلاءات ، والفتن والامتحانات ؛ فقد علم الله أن هذه الخليقة البشرية لا تصاغ صياغة سليمة ، ولا تنضج نضجا صحيحا ، ولا تصح وتستقيم على منهج إلا بذاك النوع من التربية التجريبية الواقعية ، التي تحفر في القلوب ، وتنقش في الأعصاب ؛ وتأخذ من النفوس وتعطي في معترك الحياة ومصطرع الأحداث. أما القرآن فيتنزل ليكشف لهذه النفوس عن حقيقة ما يقع ودلالته ؛ وليوجه تلك القلوب وهي منصهرة بنار الفتنة ، ساخنة بحرارة الابتلاء ، قابلة للطرق ، مطاوعة للصياغة!

    ولقد كانت فترة عجيبة حقا تلك التي قضاها المسلمون في حياة الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فترة اتصال السماء بالأرض اتصالا مباشرا ظاهرا ، مبلورا في أحداث وكلمات. ذلك حين كان يبيت كل مسلم وهو يشعر أن عين الله عليه ، وأن سمع الله إليه ؛ وأن كل كلمة منه وكل حركة ، بل كل خاطر وكل نية ، قد يصبح مكشوفا للناس ، يتنزل في شأنه قرآن على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ. وحين كان كل مسلم يحس الصلة المباشرة بينه وبين ربه ؛ فإذا حزبه أمر ، أو واجهته معضلة ، انتظر أن تفتح أبواب السماء غدا أو بعد غد ليتنزل منها حل لمعضلته ، وفتوى في أمره ، وقضاء في شأنه. وحين كان الله سبحانه بذاته العلية ، يقول : أنت يا فلان بذاتك قلت كذا ، وعملت كذا وأضمرت كذا وأعلنت كذا. وكن كذا ، ولا تكن كذا .. ويا له من أمر هائل عجيب! يا له من أمر هائل عجيب أن يوجه الله خطابه المعين إلى شخص معين .. هو وكل من على هذه الأرض ، وكل ما في هذه الأرض ، وكل هذه الأرض. ذرة صغيرة في ملك الله الكبير! لقد كانت فترة عجيبة حقا ، يتملاها الإنسان اليوم ، ويتصور حوادثها ومواقفها ، وهو لا يكاد يدرك كيف كان ذلك الواقع ، الأضخم من كل خيال!

    ولكن الله لم يدع المسلمين لهذه المشاعر وحدها تربيهم ، وتنضج شخصيتهم المسلمة. بل أخذهم بالتجارب الواقعية ، والابتلاءات التي تأخذ منهم وتعطي ؛ وكل ذلك لحكمة يعلمها ، وهو أعلم بمن خلق ، وهو اللطيف الخبير.

    هذه الحكمة تستحق أن نقف أمامها طويلا ، ندركها ونتدبرها ؛ ونتلقى أحداث الحياة وامتحاناتها على ضوء ذلك الإدراك وهذا التدبير.

    * * *

    وهذا المقطع من سورة الأحزاب يتولى تشريح حدث من الأحداث الضخمة في تاريخ الدعوة الإسلامية ، وفي تاريخ الجماعة المسلمة ؛ ويصف موقفا من مواقف الامتحان العسيرة ، وهو غزوة الأحزاب ، في السنة الرابعة أو الخامسة للهجرة ، الامتحان لهذه الجماعة الناشئة ، ولكل قيمها وتصوراتها. ومن تدبر هذا النص القرآني ، وطريقة عرضه للحادث ، وأسلوبه في الوصف والتعقيب ووقوفه أمام بعض المشاهد والحوادث ، والحركات والخوالج ، وإبرازه للقيم والسنن .. من ذلك كله ندرك كيف كان الله يربي هذه الأمة بالأحداث والقرآن في آن.

    ولكي ندرك طريقة القرآن الخاصة في العرض والتوجيه فإننا قبل البدء في شرح النص القرآني ، نثبت رواية الحادث كما عرضتها كتب السيرة ـ مع الاختصار المناسب ـ ليظهر الفارق بين سرد الله سبحانه ، وسرد البشر للوقائع والأحداث.