ولا نرجح واحدا منها. إنما هي لتقرب صورة التجربة الأولى في حياة البشرية.
ثم أدركت آدم وزوجه رحمة الله ، بعد ما عصاه ، فقد كانت هذه هي التجربة الأولى :
(ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) ..
بعد ما استغفر آدم وندم واعتذر. ولا يذكر هذا هنا لتبدو رحمة الله في الجو وحدها ..
ثم صدر الأمر إلى الخصمين اللدودين أن يهبطا إلى أرض المعركة الطويلة بعد الجولة الأولى :
(قالَ : اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً ، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ..
وبذلك أعلنت الخصومة في الثقلين. فلم يعد هناك عذر لآدم وبنيه من بعده أن يقول أحد منهم إنما أخذت على غرة ومن حيث لا أدري. فقد درى وعلم ؛ وأعلن هذا الأمر العلوي في الوجود كله : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)!
ومع هذا الإعلان الذي دوت به السماوات والأرضون ، وشهده الملائكة أجمعون. شاءت رحمة الله بعباده أن يرسل إليهم رسله بالهدى. قبل أن يأخذهم بما كسبت أيديهم. فأعلن لهم يوم أعلن الخصومة الكبرى بين آدم وإبليس ، أنه آتيهم بهدى منه ، فمجاز كلا منهم بعد ذلك حسبما ضل أو اهتدى :
(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً ، فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى. قالَ : رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟ قالَ : كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى. وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) ..
يجيء هذا المشهد بعد القصة كأنه جزء منها ، فقد أعلن عنه في ختامها في الملأ الأعلى. فذلك أمر إذن قضي فيه منذ بعيد ولا رجعة فيه ولا تعديل.
(فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) .. فهو في أمان من الضلال والشقاء باتباع هدى الله. وهما ينتظران خارج عتبات الجنة. ولكن الله يقي منهما من اتبع هداه. والشقاء ثمرة الضلال ولو كان صاحبه غارقا في المتاع. فهذا المتاع ذاته شقوة. شقوة في الدنيا وشقوة في الآخرة. وما من متاع حرام ، إلا وله غصة تعقبه وعقابيل تتبعه. وما يضل الإنسان عن هدى الله إلا ويتخبط في القلق والحيرة والتكفؤ والاندفاع من طرف إلى طرف لا يستقر ولا يتوازن في خطاه. والشقاء قرين التخبط ولو كان في المرتع الممرع! ثم الشقوة الكبرى في دار البقاء. ومن اتبع هدى الله فهو في نجوة من الضلال والشقاء في الأرض ، وفي ذلك عوض عن الفردوس المفقود ، حتى يؤوب إليه في اليوم الموعود.
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) والحياة المقطوعة الصلة بالله ورحمته الواسعة ، ضنك مهما يكن فيها من سعة ومتاع. إنه ضنك الانقطاع عن الاتصال بالله والاطمئنان إلى حماه. ضنك الحيرة والقلق والشك. ضنك الحرص والحذر : الحرص على ما في اليد والحذر من الفوت. ضنك الجري وراء بارق المطامع والحسرة على كل ما يفوت. وما يشعر القلب بطمأنينة الاستقرار إلا في رحاب الله. وما يحس راحة الثقة إلا وهو مستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها .. إن طمأنينة الإيمان تضاعف الحياة طولا وعرضا وعمقا وسعة ، والحرمان منه شقوة لا تعدلها شقوة الفقر والحرمان.
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي) وانقطع عن الاتصال بي (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) .. (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى) .. وذلك ضلال من نوع ضلاله في الدنيا. وذلك جزاء على إعراضه عن الذكر في الأولى. حتى