وعهده للرحمن. وها هي ذي التجربة الأولى تعلن نتيجتها الأولى : (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) ثم تعرض تفصيلاتها :
(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ : اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) ..
هكذا في إجمال ، يجيء هذا المشهد الذي يفصل في سور أخرى ، لأن السياق هنا سياق النعمة والرعاية .. فيعجل بمظاهر النعمة في الرعاية :
(فَقُلْنا : يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ، فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى ، إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى ، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) ..
وكانت هذه رعاية من الله وعنايته أن ينبه آدم إلى عدوه ويحذره غدره ، عقب نشوزه وعصيانه ، والامتناع عن السجود لآدم كما أمره ربه. (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى) فالشقاء بالكد والعمل والشرود والضلال والقلق والحيرة واللهفة والانتظار والألم والفقدان .. كلها تنتظر هناك خارج الجنة ؛ وأنت في حمى منها كلها ما دمت في رحاب الفردوس .. (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى. وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) .. فهذا كله مضمون لك ما دمت في رحابها ، والجوع والعري ، يتقابلان مع الظمأ والضحوة. وهي في مجموعها تمثل متاعب الإنسان الأولى في الحصول على الطعام والكساء ، والشراب والظلال.
ولكن آدم كان غفلا من التجارب. وهو يحمل الضعف البشري تجاه الرغبة في البقاء والرغبة في السلطان. ومن هذه الثغرة نفذ إليه الشيطان :
(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ : يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى؟)
لقد لمس في نفسه الموضع الحساس ، فالعمر البشري محدود ، والقوة البشرية محدودة. من هنا يتطلع إلى الحياة الطويلة وإلى الملك الطويل ، ومن هاتين النافذتين يدخل عليه الشيطان ، وآدم مخلوق بفطرة البشر وضعف البشر ، لأمر مقدور وحكمة مخبوءة .. ومن ثم نسي العهد ، وأقدم على المحظور :
(فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما ، وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ .. وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى) ..
والظاهر أنها السوءات الحسية تبدت لهما وكانت عنهما مستورة ، وأنها مواضع العفة في جسديهما. يرجح ذلك أنهما أخذا يسترانها بورق الجنة يشبكانه ليستر هذه المواضع. وقد يكون ذلك إيذانا باستيقاظ الدوافع الجنسية في كيانهما. فقبل يقظة هذه الدوافع لا يحس الإنسان بالخجل من كشف مواضع العفة ولا ينتبه إليها ولكنه ينتبه إلى العورات عند استيقاظ دوافع الجنس ويخجل من كشفها.
وربما كان حظر هذه الشجرة عليهما ، لأن ثمارها مما يوقظ هذه الدوافع في الجسم تأجيلا لها فترة من الزمان كما يشاء الله. وربما كان نسيانهما عهد الله وعصيانهما له تبعه هبوط في عزيمتهما وانقطاع عن الصلة بخالقهما فسيطرت عليهما دوافع الجسد وتنبهت فيهما دوافع الجنس. وربما كانت الرغبة في الخلود تجسمت في استيقاظ الدوافع الجنسية للتناسل ؛ فهذه هي الوسيلة الميسرة للإنسان للامتداد وراء العمر الفردي المحدود .. كل هذه فروض لتفسير مصاحبة ظهور سوآتهما لهما للأكل من الشجرة. فهو لم يقل : فبدت سوآتهما. إنما قال : فبدت لهما سوآتهما. مما يؤذن أنها كانت محجوبة عنهما فظهرت لهما بدافع داخلي من إحساسهما .. وقد جاء في موضع آخر عن إبليس : (لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما) ، وجاء : (يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) وقد يكون اللباس الذي نزعه الشيطان ليس لباسا ماديا إنما هو شعور ساتر ، قد يكون هو شعور البراءة والطهارة والصلة بالله. وعلى أية حال فهي مجرد فروض كما أسلفنا لا نؤكدها