ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ؛ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً ، وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً).
وفي قصة موسى مع العبد الصالح عند ما يكشف له عن سر تصرفاته التي أنكرها عليه موسى يقول : (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) فيكل الأمر فيها لله.
* * *
فأما تصحيح القيم بميزان العقيدة ، فيرد في مواضع متفرقة ، حيث يرد القيم الحقيقية إلى الإيمان والعمل الصالح ، ويصغر ما عداها من القيم الأرضية الدنيوية التي تبهر الأنظار.
فكل ما على الأرض من زينة إنما جعل للابتلاء والاختبار ، ونهايته إلى فناء وزوال : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ، وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً).
وحمى الله أوسع وأرحب ، ولو أوى الإنسان إلى كهف خشن ضيق. والفتية المؤمنون أصحاب الكهف يقولون بعد اعتزالهم لقومهم : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ ـ إِلَّا اللهَ ـ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً)
والخطاب يوجه إلى الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ليصبر نفسه مع أهل الإيمان ؛ غير مبال بزينة الحياة الدنيا وأهلها الغافلين عن الله (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ، وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا ؛ وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً. وَقُلِ : الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ).
وقصة الجنتين تصور كيف يعتز المؤمن بإيمانه في وجه المال والجاه والزينة. وكيف يجبه صاحبها المنتفش المنتفخ بالحق ، ويؤنبه على نسيان الله : (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ : أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً؟ لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً. وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ : ما شاءَ اللهُ ، لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً. فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ ، وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً ، أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً).
وعقب القصة يضرب مثلا للحياة الدنيا وسرعة زوالها بعد ازدهارها : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ، فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ ، وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً).
ويعقب عليه ببيان للقيم الزائلة والقيم الباقية : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً).
وذو القرنين لا يذكر لأنه ملك ، ولكن يذكر لأعماله الصالحة. وحين يعرض عليه القوم الذين وجدهم بين السدين أن يبني لهم سدا يحميهم من يأجوج ومأجوج في مقابل أن يعطوه مالا ، فإنه يرد عليهم ما عرضوه من المال ، لأن تمكين الله له خير من أموالهم (قالَ : ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ). وحين يتم السد يرد الأمر لله لا لقوته البشرية : (قالَ : هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ، فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).
وفي نهاية السورة يقرر أن أخسر الخلق أعمالا ، هم الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه ؛ وهؤلاء لا وزن لهم ولا قيمة وإن حسبوا أنهم يحسنون صنعا : (قُلْ : هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً؟ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً).