المفتوح والبصيرة المستنيرة. وهدف هذه الرحلة الأساسي في مشاهد الكون وأسراره هو تجلية الحقيقة الاعتقادية الأساسية : وهي أن هذا الكون بجملته يدين بالعبودية لله وحده ، فالله هو ربه وحاكمه. فأولى بالإنسان أن لا يكون نشازا في لحن الوجود المؤمن ؛ وألا يشذ عن العبودية لرب هذا الكون الذي له الخلق والأمر .. وهو رب العالمين ..
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ. أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ، تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ. ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ. وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ، وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ، حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ ، فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ ؛ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ. كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ، وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً. كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ).
* * *
والآن تمضي الرحلة ، وتجري القصة ، ويبرز الموكب الإيماني الجليل ، يهتف بالبشرية الضالة ، يذكرها وينذرها ، ويحذرها سوء المصير. والبشرية الضالة تلوي وتعاند ، وتواجه الدعوة الخيرة بالعناد والتمرد ؛ ثم بالطغيان والبطش .. ويتولى الله سبحانه المعركة بعد أن يؤدي الرسل واجبهم من التذكير والإنذار ، فيقابلوا من قومهم بالتكذيب والإعراض ، ثم بالبطش والإيذاء. وبعد ان يفاصلوا قومهم على العقيدة ، ويختاروا الله وحده ويدعوا له الأمر كله.
ويعرض السياق قصة نوح ، وقصة هود ، وقصة صالح ، وقصة لوط ، وقصة شعيب .. مع أقوامهم ، وهم يعرضون عليهم حقيقة واحدة لا تتبدل : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) .. ويجادلهم قومهم في إفراد الله سبحانه بالألوهية ، ويستنكرون أن تكون لله وحده الربوبية. كما يجادلونهم في إرسال الله بشرا من الناس بالرسالة! ويجادل بعضهم في أن يتعرض الدين لشؤون الحياة الدنيا ، ويتحكم في التعاملات المالية والتجارية! ـ وذلك كما يحاول اليوم ناس من الجاهلية الحاضرة في هذه القضية بعينها بعد عشرات القرون ، ويسمون هذا الجدل الجاهلي القديم تحررا «وتقدمية»! ـ ويعرض السياق مصارع المكذبين في نهاية كل قصة.
ويلحظ المتتبع لسياق القصص كله في السورة أن كل رسول يقول لقومه قولة واحدة : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ). ويتقدم لهم بالحقيقة التي استحفظه عليها ربه تقدم الناصح المخلص ، المشفق على قومه مما يراه من العاقبة التي تتربص بهم وهم عنها غافلون. ولكنهم لا يقدورن نصح رسولهم لهم ؛ ولا يتدبرون عاقبة أمرهم ، ولا يستشعرون عمق الإخلاص الذي يحمله قلب الرسول ، وعمق التجرد من كل مصلحة ، وعمق الإحساس بضخامة التبعة ..
ويكفي أن نثبت هنا ما ورد عن قصة نوح ـ أول القصص ـ وما ورد عن قصة شعيب ، آخر هذه الجملة من القصص ، التي يقف السياق بعدها للتعقيب :
(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ، فَقالَ : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ. قالَ : يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ ، وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي ، وَأَنْصَحُ لَكُمْ ، وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ. أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ