تحت تأثير أساطير وتقاليد معينة يطوفون بالبيت عرايا ، ويحرمون أنواعا من الثياب ، وأنواعا من الطعام في فترة الحج. ويزعمون أن هذا من شرع الله ، وأن الله قد حرم عليهم هذا الذي يحرمونه على أنفسهم .. ومن ثم يجيء في استعراض قصة البشرية ، وفي التعقيب عليها ما يناسب ويواجه هذه الحالة الواقعية في الجاهلية .. وفي كل جاهلية في الحقيقة .. أليست سمة كل جاهلية هي التعري والكشف وقلة الحياء من الله وقلة التقوى؟
وهذا يدلنا على سمة من سمات المنهج القرآني جديرة بالتأمل .. إنه حتى القصص في القرآن لا يسرد إلا لمواجهة حالة واقعة بالفعل. ولأنه يواجه ـ في كل مرة ـ حالة معينة ، فإن الحقيقة التي تذكر منه والحلقة التي تعرض في موضع من المواضع ، تعرض بقدر الحالة الواقعة التي يواجهها النص حينذاك وفي جوها ..
وهذا بالإضافة إلى ما قلناه عن المنهج القرآني في التعريف بسورة الأنعام ـ في الجزء السابع (١) ـ يكون قاعدة هامة .. هي أن المنهج القرآني لا يعرض شيئا لا تستدعيه حالة واقعة .. إنه لا يعرف اختزان المعلومات والأحكام ـ ولا حتى القصص ـ إلى أن يجيء وقت الحاجة الواقعة إليها ..
والآن ـ وقبل أن تنطلق القافلة في طريقها ، وقبل أن يواجهها الرسل بالهدى ، وقبل أن يفصل السياق كيف تحركت العقيدة مع التاريخ البشري بعد آدم وزوجه وتجربتهما الأولى .. الآن يبادر بتصوير مشهد النهاية ، نهاية المرحلة الكبرى ، وذلك على طريقة القرآن الغالبة في عرض الرحلة بشطريها في دار الابتلاء وفي دار الجزاء ، كأنما هي رحلة متصلة ممدودة.
وهنا نجد أطول مشهد من مشاهد القيامة ، وأكثرها تفصيلا ، وأحفلها بالمناظر المتتابعة والحوار المتنوع .. وموقعه في السورة تعقيبا على قصة آدم وخروجه من الجنة بإغواء إبليس له ولزوجه ؛ وتحذير الله لأبنائه أن يفتنهم الشيطان كما أخرج أبويهم من الجنة ؛ وإخبارهم بأنه سيرسل إليهم رسلا يقصون عليهم آياته .. موقعه كذلك يجعله مصداقا لما ينبئ به أولئك الرسل. فإذا الذين أطاعوا الشيطان قد حرموا العودة إلى الجنة ، وفتنوا عنها كما أخرج الشيطان أبويهم منها ؛ وإذا الذين خالفوا الشيطان وأطاعوا الله قد ردوا إلى الجنة ، ونودوا : (أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) .. فعاد المغتربون إلى دار النعيم!!!
والمشهد طويل لا نملك إثباته هنا في هذا التعريف المجمل وسنواجهه فيما بعد بالتفصيل.
والسياق يتخذ من هذا المشهد مناسبة للتعقيب بالإنذار والتذكير ، وتحذير الذين يواجهون القرآن بالتكذيب ، ويطلبون الخوارق لتصديقه ، من سوء المصير :
(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ ، هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ؟ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ : قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ. فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا ، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ؟ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) ..
* * *
وبعد تلك الرحلة الواسعة الآماد ، من المنشأ إلى المعاد ، يقف السياق ليعقب عليها ، مقررا «حقيقة الألوهية» و «حقيقة الربوبية» في مشاهد كونية ؛ تشهد بهذه الحقيقة ؛ على طريقة القرآن في جعل هذا الكون كله مجالا تتجلى فيه هذه الحقيقة بآثارها المبدعة ، العميقة الإيحاء للقلب البشري حين يستقبلها بالحس
__________________
(١) ص ١٠٠٤ ـ ١٠٢٩.