لها قرآنها ، وفي سيرة الصدر الأول الذين فهموه من رجالها .. هذا هو الطريق.
إن الأرزاق المادية ، والقيم المادية ، ليست هي التي تحدد مكان الناس في هذه الأرض .. في الحياة الدنيا فضلا عن مكانهم في الحياة الأخرى .. إن الأرزاق المادية ، والتيسيرات المادية ، والقيم المادية ، يمكن أن تصبح من أسباب شقوة البشرية ـ لا في الآخرة المؤجلة ولكن في هذه الحياة الواقعة ـ كما نشهد اليوم في حضارة المادة الكالحة!
إنه لا بد من قيم أخرى تحكم الحياة الإنسانية ؛ وهذه القيم الأخرى هي التي يمكن أن تعطي للأرزاق المادية والتيسيرات المادية قيمتها في حياة الناس ؛ وهي التي يمكن أن تجعل منها مادة سعادة وراحة لبني الإنسان.
إن المنهج الذي يحكم حياة مجموعة من البشر هو الذي يحدد قيمة الأرزاق المادية في حياتهم. هو الذي يجعلها عنصر سعادة أو عنصر شقاء. كما يجعلها سببا للرقي الإنساني أو مزلقا للارتكاس!
ومن هنا كان التركيز على قيمة هذا الدين في حياة أهله :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ، وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. قُلْ : بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ..
ومن هنا كان الذين تلقوا هذا القرآن أول مرة يدركون هذه القيمة العليا ، فيقول عمر ـ رضي الله عنه ـ عن المال والأنعام : «ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى : (قُلْ : بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ..
لقد كان عمر ـ رضي الله عنه ـ يفقه دينه. كان يعرف أن فضل الله ورحمته يتمثلان بالدرجة الأولى في هذا الذي أنزله الله لهم : موعظة من ربهم ، وشفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين. لا فيما يجمعون من المال والإبل والأرزاق!
لقد كانوا يدركون قيمة النقلة البعيدة التي نقلها لهم هذا الدين ، من وهدة الجاهلية التي كانوا فيها .. وإنها لنقلة بعيدة بالقياس إلى الجاهلية في كل زمان ومكان (١) .. بما فيها جاهلية القرن العشرين (٢).
إن النقلة الأساسية التي تتمثل في هذا الدين هي إعتاق رقاب العباد من العبودية للعباد ؛ وتحريرهم من هذه العبودية ، وتعبيدهم لله وحده ، وإقامة حياتهم كلها على أساس هذا الانطلاق الذي يرفع تصوراتهم ، ويرفع قيمهم ، ويرفع أخلاقهم. ويرفع حياتهم كلها من العبودية إلى الحرية ..
ثم تجيء الأرزاق المادية والتيسيرات المادية ، والتمكين المادي ، تبعا لهذا التحرر وهذا الانطلاق. كما حدث في تاريخ العصبة المسلمة ، وهي تكتسح الجاهليات حولها ، وتهيمن على مقاليد السلطان في الأرض ، وتقود البشرية إلى الله ، لتستمتع معها بفضل الله ..
والذين يركزون على القيم المادية ، وعلى الإنتاج المادي ، ويغفلون تلك القيمة الكبرى الأساسية ، هم أعداء البشرية الذين لا يريدون لها أن ترتفع على مستوى الحيوان وعلى مطالب الحيوان.
وهم لا يطلقونها دعوة بريئة ؛ ولكنهم يهدفون من ورائها إلى القضاء على القيم الإيمانية ، وعلى العقيدة التي تعلق قلوب الناس بما هو أرفع من مطالب الحيوان ـ دون أن تغفل ضروراتهم الأساسية ـ وتجعل لهم مطالب
__________________
(١) يراجع فصل «نقلة بعيدة» في كتاب. «معالم في الطريق». «دار الشروق».
(٢) يراجع كتاب : «الإسلام والجاهلية» للسيد أبي الأعلى المودودي. وكتاب : «جاهلية القرن العشرين» لمحمد قطب. «دار الشروق».