(أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ. هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. قُلْ : بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ..
(أَلا ...) بهذا الإعلان المدوي. (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). والذي يملك ما في السماوات والأرض يملك أن يجعل وعده حقا فلا يعجزه عن تحقيقه معجز ، ولا يعوقه عن تصديقه معوق :
(أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) .. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ..
وهم لجهلهم يشكون أو يكذبون.
(هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ) ..
والذي يملك الحياة والموت ، يملك الرجعة والحساب ..
(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
إنه تعقيب سريع للتوكيد السريع بعد الاستعراض المثير.
ثم يعقبه النداء الجامع للبشرية جميعا :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ، وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ ، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) ..
جاءتكم في ذلك الكتاب الذي ترتابون فيه. جاءتكم الموعظة «من ربكم» فليس هو كتابا مفترى ، وليس ما فيه من عند بشر. جاءتكم الموعظة لتحيي قلوبكم ، وتشفي صدوركم من الخرافة التي تملؤها ، والشك الذي يسيطر عليها ، والزيغ الذي يمرضها ، والقلق الذي يحيرها. جاءت لتفيض عليها البرء والعافية واليقين والاطمئنان والسلام مع الإيمان. وهي لمن يرزق الإيمان هدى إلى الطريق الواصل ، ورحمة من الضلال والعذاب : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ، هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ...
فبهذا الفضل الذي آتاه الله عباده ، وبهذه الرحمة التي أفاضها عليهم من الإيمان .. فبذلك وحده فليفرحوا. فهذا هو الذي يستحق الفرح. لا المال ولا أعراض هذه الحياة. إن ذلك هو الفرح العلوي الذي يطلق النفس من عقال المطامع الأرضية والأعراض الزائلة ، فيجعل هذه الأعراض خادمة للحياة لا مخدومة ؛ ويجعل الإنسان فوقها وهو يستمتع بها لا عبدا خاضعا لها. والإسلام لا يحقر أعراض الحياة الدنيا ليهجرها الناس ويزهدوا فيها. إنما هو يزنها بوزنها ليستمتع بها الناس وهم أحرار الإرادة طلقاء اليد ، مطمحهم أعلى من هذه الأعراض ، وآفاقهم أسمى من دنيا الأرض. الإيمان عندهم هو النعمة ، وتأدية مقتضيات الإيمان هي الهدف. والدنيا بعد ذلك مملوكة لهم لا سلطان لها عليهم.
عن عقبة بن الوليد عن صفوان بن عمرو : سمعت أيفع بن عبد الله الكلاعي يقول : لما قدم خراج العراق إلى عمر ـ رضي الله عنه ـ خرج عمر ومولى له ، فجعل عمر يعد الإبل فإذا هي أكثر من ذلك ، فجعل يقول : الحمد لله تعالى. ويقول مولاه : هذا والله من فضل الله ورحمته ، فقال عمر : كذبت ليس هذا هو الذي يقول الله تعالى : (قُلْ : بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
هكذا كان الرعيل الأولون ينظرون إلى قيم الحياة. كانوا يعدون الفضل الأول والرحمة الأولى هي ما جاءهم من الله من موعظة وهدى. فأما المال ، وأما الثراء ، وأما النصر ذاته فهو تابع. لذلك كان النصر يأتيهم ، وكان المال ينثال عليهم ، وكان الثراء يطلبهم .. إن طريق هذه الأمة واضح. إنه في هذا الذي يسنه