(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ ، فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ..
ونقف من هاتين الآيتين أمام حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية التي يرتكز عليها التصور الإسلامي كله وعناية المنهج القرآني بتوضيحها وتقريرها في كل مناسبة ، وفي صور شتى متنوعة ..
إنه يقال للرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ إن أمر هذه العقيدة ، وأمر القوم الذين يخاطبون بها كله لله ، وأن ليس لك من الأمر شيء. دورك فيها هو البلاغ ، أما ما وراء ذلك فكله لله. وقد ينقضي أجلك كله ولا ترى نهاية القوم الذين يكذبونك ويعاندونك ويؤذونك ، فليس حتما على الله أن يريك عاقبتهم ، وما ينزله بهم من جزاء .. هذا له وحده سبحانه! أما أنت ـ وكل رسول ـ فعليك البلاغ .. ثم يمضي الرسول ويدع الأمر كله لله .. ذلك كي يعلم العبيد مجالهم ، وكي لا يستعجل الدعاة قضاء الله مهما طال عليهم في الدعوة ، ومهما تعرضوا فيها للعذاب!!
(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟) ..
وقد كانوا يسألون في تحد واستعجال ، طالبين وقوع ما يوعدهم به النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من قضاء الله فيهم ، كما قضى الله بين الأمم التي جاءتها رسلها فكذبت ، فأخذ الله المكذبين : والجواب :
(قُلْ : لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ ، لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ، إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) ..
وإذا كان الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ، فهو لا يملك لهم الضر والنفع بطبيعة الحال. (وقد قدم ذكر الضر هنا ، وإن كان مأمورا أن يتحدث عن نفسه ، لأنهم هم يستعجلون الضر ، فمن باب التناسق قدم ذكر الضر. أما في موضع آخر في سورة الأعراف فقدم النفع في مثل هذا التعبير ، لأنه الأنسب أن يطلبه لنفسه وهو يقول : ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسي السوء).
(قُلْ : لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً .. إِلَّا ما شاءَ اللهُ ..).
فالأمر إذن لله يحقق وعيده في الوقت الذي يشاؤه. وسنة الله لا تتخلف ، وأجله الذي أجله لا يستعجل :
(لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ، إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) ..
والأجل قد ينتهي بالهلاك الحسي. هلاك الاستئصال كما وقع لبعض الأمم الخالية. وقد ينتهي بالهلاك المعنوي. هلاك الهزيمة والضياع. وهو ما يقع للأمم ، إما لفترة تعود بعدها للحياة ، وإما دائما فتضمحل وتنمحي شخصيتها وتنتهي إلى اندثارها كأمة ، وإن بقيت كأفراد .. وكل أولئك وفق سنة الله التي لا تتبدل ، لا مصادفة ولا جزافا ولا ظلما ولا محاباة. فالأمم التي تأخذ بأسباب الحياة تحيا والأمم التي تنحرف عنها تضعف أو تضمحل أو تموت بحسب انحرافها. والأمة الإسلامية منصوص على أن حياتها في اتباع رسولها ، والرسول يدعوها لما يحييها. لا بمجرد الاعتقاد ، ولكن بالعمل الذي تنص عليه العقيدة في شتى مرافق الحياة. وبالحياة وفق المنهج الذي شرعه الله لها ، والشريعة التي أنزلها ، والقيم التي قررها. وإلا جاءها الأجل وفق سنة الله ..
ثم يبادرهم السياق بلمسة وجدانية تنقلهم من موقف السائل المستهزئ المتحدي ، إلى موقف المهدّد الذي قد يفاجئه المحظور في كل لحظة من الليل أو النهار :
(قُلْ : أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ، ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ؟) ..
فهذا العذاب المغيب الذي لا يعلم موقعه وموعده ؛ والذي قد يحل بياتا وأنتم نيام ، أو نهارا وأنتم أيقاظ ،