ما يقع ... هل هؤلاء تم تعارفهم كما ينبغي أن يكون؟
وهذه الشعوب المتناحرة ، والدول المتخاصمة ـ لا تتخاصم على حق عام ، ولا على منهج سليم ، إنما تتعارك على الحطام والأعراض ـ هذه. هل عرف بعضها بعضا؟ وهي ما تكاد تفرغ من خصام حتى تدخل في خصام.
إنه تشبيه لتمثيل قصر الحياة الدنيا. ولكنه يصور حقيقة أعمق فيما يكون بين الناس في هذه الحياة .. ثم يرحلون!
وفي ظل هذا المشهد تبدو الخسارة الفادحة لمن جعلوا همهم كله هو هذه الرحلة الخاطفة ، وكذبوا بلقاء الله ، وشغلوا عنه واستغرقوا في تلك الرحلة ـ بل تلك الومضة ـ فلم يستعدوا لهذا اللقاء بشيء يلقون به ربهم ؛ ولم يستعدوا كذلك بشيء للإقامة الطويلة في الدار الباقية :
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ ، وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) ..
* * *
ومن هذا المشهد الخاطف ليوم الحشر ، وما سبقه من أيام الحياة في الأرض إلى حديث مع الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ في شأن وعيد الله للمكذبين ؛ ذلك الوعيد الغامض ، لا يدرون إن كان سيعاجلهم غدا ، أم إنهم سينظرون إلى يوم الدين ، ليبقى مصلتا فوق رؤوسهم لعلهم يتقون ويهتدون .. وشيئا فشيئا تنتهي الجولة التي بدأت بالحديث عن الوعيد إلى نهايتها يوم لا ينفع الفداء ولو كان ما في الأرض كله ، ويوم يقضي الله بالقسط لا يظلم أحدا .. وذلك على طريقة القرآن في وصل الدنيا بالآخرة ، في كلمات ولحظات ، في تصوير حي يلمس القلوب ، ويصور في الوقت ذاته حقيقة الاتصال بين الدارين والحياتين كما هما في الواقع ، وكما ينبغي أن يكونا في التصور الإسلامي الصحيح :
(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ، ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ. وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ ، فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. وَيَقُولُونَ : مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ؟ قُلْ : لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللهُ ، لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ، إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ : إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ. أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ؟ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ؟ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا : ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ ، هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ. وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ؟ قُلْ : إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ. وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ ، وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ ، وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).
تبدأ هذه الجولة بتقرير أن مرجع القوم إلى الله ، سواء وقع بعض الوعيد الذي كلف الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يبلغه لهم ، في حياته أو بعد وفاته. فالمرجع إلى الله في الحالين. وهو شهيد على ما يفعلون في حضور الرسول بالحياة ، وفي غيبته بالوفاة. فلن يضيع شيء من أعمالهم ولن تعفيهم وفاة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مما يوعدون.
(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ، ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) .. فالأمور مدبرة سائرة حسب التدبير ، لا يخرم منها حرف ، ولا يتغير بالطوارئ والظروف. ولكن كل قوم ينظرون حتى يجيء رسولهم ، فينذرهم ويبين لهم ، وبذلك يستوفون حقهم الذي فرضه الله على نفسه بألا يعذب قوما إلا بعد الرسالة ، وبعد الإعذار لهم بالتبيين. وعندئذ يقضي بينهم بالقسط حسب استجابتهم للرسول :