ثم يقيس على نتائجها. والعلم نفسه يسلم بأن النتائج الناشئة عن هذا القياس ظنية محتملة لا يقينية قطعية (وذلك بالإضافة إلى أن كل تجربة على حدة ، تقوم على ترجيح أحد «الاحتمالات» لا على القطع الحتمي) .. فلم يبق من علم مستيقن يمكن أن يحصل عليه البشر إلا العلم الذي يأتيهم من عند العليم الخبير ، والذي يقصه عليهم من يقص الحق وهو خير الفاصلين (١).
ثانيا : بكونه مبرأ من الانقطاع والتمزق الملحوظين في الدراسات «العلمية» والتأملات «الفلسفية» والومضات «الفنية» جميعا. فهو لا يفرد كل جانب من جوانب (الكل) الجميل المتناسق بحديث مستقل. كما تصنع أساليب الأداء البشرية. وإنما هو يعرض هذه الجوانب في سياق موصول ؛ يرتبط فيه عالم الشهادة بعالم الغيب. وتتصل فيه حقائق الكون والحياة والإنسان بحقيقة الألوهية. وتتصل فيه الدنيا بالآخرة. وحياة الناس في الأرض بحياة الملأ الأعلى .. في أسلوب تتعذر مجاراته أو تقليده ؛ لأن الأسلوب البشري عند ما يحاول تقليده في هذه الخاصية تبدو فيه الحقائق مختلطة مضطربة غامضة ، غير واضحة ولا محددة ولا منسقة ، كما تبدو في المنهج القرآني!
«وهذا الاتصال والارتباط في عرض جملة الحقائق في السياق القرآني الواحد ؛ قد يختلف فيه التركيز على أي منها بين موضع وموضع. ولكن هذا الترابط يبدو دائما. فعند ما يكون التركيز في موضع من السياق القرآني مثلا على تعريف الناس بربهم الحق ، تتجلى هذه الحقيقة الكبيرة في آثار القدرة الإلهية الفاعلة في الكون والحياة والإنسان. في عالم الغيب وعالم الشهادة سواء .. وعند ما يكون التركيز في موضع آخر على التعريف بحقيقة الكون ، تتجلى العلاقة بين «حقيقة الألوهية» و «حقيقة الكون» ، ويتطرق السياق كثيرا إلى حقيقة الحياة والأحياء ، وإلى سنن الله في الكون والحياة .. وعند ما يكون التركيز على «حقيقة الإنسان» يتجلى ارتباطها بحقيقة الألوهية وبالكون والأحياء ، وبعالم الغيب وعالم الشهادة على السواء .. وعند ما يكون التركيز على الدار الآخرة تذكر الحياة الدنيا وترتبطان بالله وبسائر الحقائق الأخرى .. وكذلك عند ما يكون التركيز على قضايا الحياة الدنيا .. إلى آخر هذا النسق من العرض ، الواضح الملامح في القرآن.
ثالثا : بكونه ـ مع تماسك جوانب «الحقيقة» وتناسقها ـ يحافظ تماما على إعطاء كل جانب من جوانبها ـ في الكل المتناسق ـ مساحته التي تساوي وزنه الحقيقي في ميزان الله ـ وهو الميزان ـ ومن ثم تبدو «حقيقة الألوهية» وخصائصها ، وقضية «الألوهية والعبودية» بارزة مسيطرة محيطة شاملة ؛ حتى ليبدو أن التعريف بتلك الحقيقة وتجلية هذه القضية هو موضوع القرآن الأساسي (٢) .. وتشغل حقيقة عالم الغيب ـ بما فيه القدر والدار الآخرة ـ مساحة بارزة. ثم تنال حقيقة الإنسان ، وحقيقة الكون ، وحقيقة الحياة ، أنصبة متناسقة تناسق هذه الحقائق في عالم الواقع .. وهكذا لا تدغم حقيقة من الحقائق ، ولا تهمل ، ولا تضيع معالمها في المشهد الكلي الذي تعرض فيه هذه الحقائق .. وكما أن هذه الحقائق لا يطغى بعضها على بعض في التصور الإسلامي ذاته ـ كما بينا في فصل «التوازن» في القسم الأول (٣) ـ حيث لا ينتهي الإعجاب بالكون المادي ودقة نواميسه
__________________
(١) من أجل ذلك تتلقى الكينونة البشرية هذا الحق ، وتحس له سلطانا ليس لغيره من كل ما تتلقاه من أي مصدر آخر .. وهذا أحد أسرار القرآن المعجزة من الناحية الموضوعية.
(٢) وقد بينا من قبل في تفسير السورة سر هذه العناية الإلهية بتحقيق هذه الحقيقة وتجلية هذه القضية. راجع من ص ١٧٥٢ إلى ص ١٧٥٥ من هذا الجزء.
(٣) يراجع القسم الأول من كتاب : «خصائص التصور الإسلامي ومقوماته» ص ١٣٤ ـ ص ١٧٠. «دار الشروق».