قال : النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله ، إن ربك حكيم عليم .. وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون .. يا معشر الجن والإنس ، ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي ، وينذرونكم لقاء يومكم هذا؟ .. قالوا : شهدنا على أنفسنا ، وغرتهم الحياة الدنيا ، وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين .. ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون».
وأمثالها كثير في القرآن كله. وهو أسلوب متميز تماما من الأسلوب البشري. وإلا فمن شاء أن يماري ، فليحاول أن يعبر على هذا النحو ، ثم ليأت بكلام مفهوم مستقيم ؛ فضلا على أن يكون له هذا الجمال الرائع ، وهذا الإيقاع المؤثر ، وهذا التناسق الكامل!
هذه بعض جوانب الإعجاز في الأداء نلم بها سراعا. ويبقى الإعجاز الموضوعي ؛ والطابع الرباني المتميز من الطابع البشري فيه.
إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية بجملتها ؛ فلا يخاطب ذهنها المجرد مرة. وقلبها الشاعر مرة. وحسها المتوفز مرة. ولكنه يخاطبها جملة ، ويخاطبها من أقصر طريق ؛ ويطرق كل أجهزة الاستقبال والتلقي فيها مرة واحدة كلما خاطبها .. وينشئ فيها بهذا الخطاب تصورات وتأثرات وانطباعات لحقائق الوجود كلها ، لا تملك وسيلة أخرى من الوسائل التي زاولها البشر في تاريخهم كله أن تنشئها بهذا العمق ، وبهذا الشمول ، وبهذه الدقة وهذا الوضوح ، وبهذه الطريقة وهذا الأسلوب أيضا!
وأنا أستعير هنا فقرات مقتبسة من القسم الثاني من كتاب : «خصائص التصور ومقوماته» تعين على توضيح هذه الحقيقة ؛ وهي تتحدث عن «المنهج القرآني في عرض مقومات التصور الإسلامي» في صورتها الجميلة الكاملة الشاملة المتناسقة المتوازنة ، وأبرز خصائص هذا المنهج في العرض :
أنه يمتاز عن كل المناهج :
أولا : بكونه يعرض الحقيقة ـ كما هي في عالم الواقع ـ في الأسلوب الذي يكشف كل زواياها ، وكل جوانبها ، وكل ارتباطاتها ، وكل مقتضياتها .. وهو ـ مع هذا الشمول ـ لا يعقد هذه الحقيقة ، ولا يلفها بالضباب! بل يخاطب بها الكينونة البشرية في كل مستوياتها (١) .. ولم يشأ الله ـ سبحانه ـ رحمة منه بالعباد أن يجعل مخاطبتهم بمقومات هذا التصور أو إدراكهم لها ، متوقفا على سابق علم لهم .. إطلاقا .. لأن العقيدة هي حاجة حياتهم الأولى ؛ والتصور الذي تنشئه في عقولهم وقلوبهم هو الذي يحدد لهم طريقة تعاملهم مع الوجود كله ؛ ويحدد لهم كذلك طريقة اتجاههم لتعلم أي علم ، ولطلب أية معرفة .. لهذا السبب لم يجعل الله إدراك هذه العقيدة متوقفا على علم سابق. ولسبب آخر هو أن الله يريد أن يكون هذا التصور الذي تنشئه حقائق العقيدة هو قاعدة علم البشر ومعرفتهم ـ بما أنه هو قاعدة تصورهم وتفسيرهم للكون من حولهم ، ولما يجري فيه ولما يجري فيهم ـ كي يقوم علمهم وتقوم معرفتهم على أساس من الحق المستيقن الذي ليس هنالك غيره حق مستيقن. ذلك أن كل ما يتلقاه الإنسان وكل ما يصل إليه ـ عن غير هذا المصدر ـ هو معرفة ـ «ظنية» ونتائج «محتملة» لا «قطعية» حتى ذلك «العلم التجريبي». فطريق العلم التجريبي هو القياس ـ لا الاستقراء والاستقصاء ـ فما يتسنى للبشر الاستقصاء والاستقراء في أية تجربة. هذا على فرض صحة جميع الملاحظات والاستنتاجات والأحكام البشرية على الظواهر! إنما قصارى «العلم» أن يقوم بعدد من التجارب ،
__________________
(١) ولا يملك الأداء البشري هذا ، فكل كاتب يخاطب مستوى معينا ، ولا يكاد غيره يفهم عنه!