على الصدقة من المسلمين. رجلا من جهينة ورجلا من سليم ، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين ؛ وقال لهما : «مرا بثعلبة وبفلان ـ رجل من بني سليم ـ فخذا صدقاتهما. فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة. وأقرآه كتاب رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقال : ما هذه إلا جزية. ما هذه إلا أخت الجزية. ما أدري ما هذا؟ انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليّ. وسمع بهما السلمي ، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهما بها ، فلما رأوها قالوا : ما يجب عليك هذا ، وما نريد أن نأخذ هذا منك. فقال : بل فخذوها فإن نفسي بذلك طيبة وإنما هي له ، فأخذاها منه ومرا على الناس فأخذا الصدقات. ثم رجعا إلى ثعلبة فقال : أروني كتابكما فقرأه فقال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه إلا أخت الجزية. انطلقا حتى أرى رأيي. فانطلقا حتى أتيا النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فلما رآهما قال : «يا ويح ثعلبة» قبل أن يكلمهما ، ودعا للسلمي بالبركة ، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي. فأنزل الله عزوجل (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ...) الآية. وعند رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ رجل من أقارب ثعلبة فسمع بذلك ، فخرج حتى أتاه ، فقال : ويحك يا ثعلبة! أنزل الله فيك كذا وكذا ؛ فخرج ثعلبة حتى أتى النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فسأله أن يقبل منه صدقته ، فقال : «إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك» فجعل يحثو على رأسه التراب ، فقال له رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «هذا عملك ، قد أمرتك فلم تطعني» فلما أبى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن يقبض صدقته رجع إلى منزله ؛ فقبض رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولم يقبل منه شيئا. ثم أتى أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ حين استخلف ، فقال : قد علمت منزلتي من رسول الله وموضعي من الأنصار فاقبل صدقتي ؛ فقال أبو بكر : لم يقبلها منك رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأبى أن يقبلها ؛ فقبض أبو بكر ولم يقبلها. فلما ولي عمر ـ رضي الله عنه ـ أتاه فقال : يا أمير المؤمنين اقبل صدقتي ، فقال : لم يقبلها رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولا أبو بكر ، وأنا أقبلها منك؟ فقبض ولم يقبلها. فلما ولي عثمان ـ رضي الله عنه ـ أتاه فقال : اقبل صدقتي ، فقال : لم يقبلها رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ولا أبو بكر ولا عمر ، وأنا أقبلها منك؟ فلم يقبلها منه. فهلك ثعلبة في خلافة عثمان ..
وسواء كانت هذه الواقعة مصاحبة لنزول الآيات أو كان غيرها ، فإن النص عام ، وهو يصور حالة عامة ، ويرسم نموذجا مكررا للنفوس التي لم تستيقن ، ولم يبلغ الإيمان فيها أن يتمكن. وإذا كانت الرواية صحيحة في ربط الحادثة بنزول الآيات ، فإن علم الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ أن نقض العهد والكذب على الله قد أورث المخلفين نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه ، يكون هو الذي منعه من قبول صدقة ثعلبة وتوبته التي ظهر بها ، ولم يعامله بالظاهر حسب الشريعة. إنما عامله بعلمه بحاله الذي لا شك فيه ، لأنه إخبار من العليم الخبير. وكان تصرفه ـ صلىاللهعليهوسلم ـ تصرفا تأديبيا برد صدقته. مع عدم اعتباره مرتدا فيؤخذ بعقوبة الردة ولا مسلما فتقبل منه زكاته. ولا يعني هذا إسقاط الزكاة عن المنافقين شريعة. إن الشريعة تأخذ الناس بظاهرهم. فيما ليس فيه علم يقيني ، كالذي كان في هذا الحادث الخاص ، فلا يقاس عليه.
غير أن رواية الحادث تكشف لنا كيف كان المسلمون الأوائل ينظرون إلى الزكاة المفروضة. إنهم كانوا يحتسبونها نعمة عليهم ، من يحرم أداءها أو يحرم قبولها منه ، فهو الخاسر الذي يستحق الترحم مما أصابه من رفض زكاته! مدركين لحقيقة المعنى الكامن في قوله تعالى :
(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) ..
فكانت لهم غنما ينالونه لا غرما يحملونه. وهذا هو الفارق بين فريضة تؤدى ابتغاء رضوان الله وضريبة تدفع لأن القانون يحتمها ويعاقب عليها الناس!