إنما كان في وقت فقره وعسرته. في وقت الرجاء والطمع. فلما أن استجاب الله له ورزقه من فضله نسي عهده ، وتنكر لوعده ، وأدركه الشح والبخل فقبض يده ، وتولى معرضا عن الوفاء بما عاهد. فكان هذا النكث بالعهد مع الكذب على الله فيه سببا في التمكين للنفاق في قلبه ، والموت مع هذا النفاق ، ولقاء الله به.
والنفس البشرية ضعيفة شحيحة ، إلا من عصم الله ؛ ولا تطهر من هذا الشح إلا أن تعمر بالإيمان ، وترتفع على ضرورات الأرض ، وتنطلق من قيود الحرص على النفع القريب ، لأنها تؤمل في خلف أعظم ، وتؤمل في رضوان من الله أكبر. والقلب المؤمن يطمئن بالإيمان ، فلا يخشى الفقر بسبب الإنفاق ، لأنه يثق بأن ما عند الناس ينفد وما عند الله باق. وهذا الاطمئنان يدفع به إلى إنفاق المال في سبيل الله تطوعا ورضى وتطهرا ، وهو آمن مغبته. فحتى لو فقد المال وافتقر منه ، فإن له عوضا أعظم عند الله.
فأما حين يقفر القلب من الإيمان الصحيح ، فالشح الفطري يهيج في نفسه كلما دعي إلى نفقة أو صدقة ، والخوف من الفقر يتراءى له فيقعد به عن البذل. ثم يبقى سجين شحه وخوفه بلا أمن ولا قرار.
والذي يعاهد الله ثم يخلف العهد ، والذي يكذب على الله فلا يفي بما وعد ، لا يسلم قلبه من النفاق : «آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان» (١).
فلا جرم يعقب إخلاف العهد والكذب على الله نفاقا دائما في قلوب تلك الطائفة التي تشير إليها الآية :
(فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ) ..
(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)؟
ألم يعلموا ـ وهم يدعون الإيمان ـ أن الله مطلع على السرائر ، عالم بما يدور بينهم من أحاديث ، يحسبونها سرا بينهم لأنهم يتناجون بها في خفية عن الناس؟ وأن الله يعلم الغيب الخافي المستور ، فيعلم حقيقة النوايا في الصدور؟ ولقد كان من مقتضى علمهم بهذا ، ألا يستخفوا عن الله بنية ، وألا تحدثهم نفوسهم بإخلاف ما عاهدوا الله عليه ، والكذب عليه في إعطاء العهود.
وقد وردت روايات عن سبب نزول الآيات الثلاث ، نذكر منها رواية عن ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث معان ـ بإسناده ـ عن أبي أمامة الباهلي عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال لرسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ ادع الله أن يرزقني مالا. قال : فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «ويحك يا ثعلبة ، قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» قال : ثم قال مرة أخرى. فقال : «أما ترضى أن تكون مثل نبي الله فو الذي نفسي بيده لو شئت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت» قال : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه. فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «اللهم ارزق ثعلبة مالا» قال : فاتخذ غنما فنمت كما ينمي الدود ، فضاقت المدينة ، فتنحى عنها فنزل واديا من أوديتها ، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما ، ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمي كما ينمي الدود حتى ترك الجمعة ، فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة ليسألهم عن الأخبار. فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ «ما فعل ثعلبة؟» فقالوا يا رسول الله اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة ، فأخبروه بأمره ، فقال : «يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة!» وأنزل الله جل ثناؤه : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) .. الآية .. ونزلت فرائض الصدقة ، فبعث رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ رجلين
__________________
(١) ورد في الصحيحين.