وفق قانون ثابت ، هو ذلك الناموس الكوني الذي أراده الله يوم خلق السماوات والأرض :
هذه الإشارة إلى ثبات الناموس يقدم بها السياق لتحريم الأشهر الحرم وتحديدها ، ليقول : إن هذا التحديد والتحريم جزء من نواميس الله ثابت كثباتها ، لا يجوز تحريفه بالهوى ، ولا يجوز تحريكه تقديما وتأخيرا ، لأنه يشبه دورة الزمن التي تتم بتقدير ثابت ، وفق ناموس لا يتخلف :
(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ..
فهذا الدين مطابق للناموس الأصيل ، الذي تقوم به السماوات والأرض ، منذ أن خلق الله السماوات والأرض.
وهكذا يتضمن ذلك النص القصير سلسلة طويلة من المدلولات العجيبة .. يتبع بعضها بعضا ، ويمهد بعضها لبعض ، ويقوي بعضها بعضا. ويشتمل على حقائق كونية يحاول العلم الحديث جاهدا أن يصل إليها بطريقته ومحاولاته وتجاربه. ويربط بين نواميس الفطرة في خلق الكون وأصول هذا الدين وفرائضه ، ليقر في الضمائر والأفكار عمق جذوره ، وثبات أسسه ، وقدم أصوله .. كل أولئك في إحدى وعشرين كلمة تبدو في ظاهرها عادية بسيطة قريبة مألوفة.
(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ. فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) ..
لا تظلموا أنفسكم في هذه الأشهر الحرم التي يتصل تحريمها بناموس كوني تقوم عليه السماوات والأرض. ذلك الناموس هو أن الله هو المشرع للناس كما أنه هو المشرع للكون .. لا تظلموا أنفسكم بإحلال حرمتها التي أرادها الله لتكون فترة أمان وواحة سلام ؛ فتخالفوا عن إرادة الله. وفي هذه المخالفة ظلم للأنفس بتعريضها لعذاب الله في الآخرة ، وتعريضها للخوف والقلق في الأرض ، حين تستحيل كلها جحيما حربية ، لا هدنة فيها ولا سلام.
(وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) ..
ذلك في غير الأشهر الحرم ، ما لم يبدأ المشركون بالقتال فيتعين رد الاعتداء في تلك الأشهر ، لأن الكف عن القتال من جانب واحد يضعف القوة الخيرة ، المنوط بها حفظ الحرمات ، ووقف القوة الشريرة المعتدية ؛ ويشيع الفساد في الأرض ؛ والفوضى في النواميس. فرد الاعتداء في هذه الحالة وسيلة لحفظ الأشهر الحرم ، فلا يعتدى عليها ولا تهان.
(وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) ..
قاتلوهم جميعا بلا استثناء أحد منهم ولا جماعة ، فهم يقاتلونكم جميعا لا يستثنون منكم أحدا ، ولا يبقون منكم على جماعة. والمعركة في حقيقتها إنما هي معركة بين الشرك والتوحيد. وبين الكفر والإيمان وبين الهدى والضلال. معركة بين معسكرين متميزين لا يمكن أن يقوم بينهما سلام دائم ، ولا أن يتم بينهما اتفاق كامل. لأن الخلاف بينهما ليس عرضيا ولا جزئيا. ليس خلافا على مصالح يمكن التوفيق بينها ، ولا على حدود يمكن أن يعاد تخطيطها. وإن الأمة المسلمة لتخدع عن حقيقة المعركة بينها وبين المشركين ـ وثنيين وأهل كتاب ـ إذا هي فهمت أو أفهمت أنها معركة اقتصادية أو معركة قومية ، أو معركة وطنية ، أو معركة استراتيجية .. كلا. إنها قبل كل شيء معركة العقيدة. والمنهج الذي ينبثق من هذه العقيدة .. أي الدين (١) .. وهذه لا تجدي
__________________
(١) يراجع فصل : «لا إله إلا الله منهج حياة» في كتاب «معالم في الطريق». «دار الشروق».