ثم كانت ـ بعد ذلك ـ تعرض حاجات لبعض القبائل العربية تتعارض مع تحريم هذه الأشهر .. وهنا تلعب الأهواء ؛ ويقوم من يفتي باستحلال أحد الأشهر الحرم عن طريق تأخيره في عام وتقديمه في عام آخر ، فتكون عدة الأشهر المحرمة أربعة ، ولكن أعيان هذه الأشهر تتبدل «ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله» .. فلما كان هذا العام التاسع كان رجب الحقيقي غير رجب ، وكان ذو الحجة الحقيقي غير ذي الحجة! كان رجب هو جمادى الآخرة ، وكان ذو الحجة هو ذا القعدة! وكان النفير في جمادى الآخرة فعلا وواقعا ، ولكنه كان في رجب اسما بسبب هذا النسيء! فجاءت هذه النصوص تبطل النسيء ؛ وتبين مخالفته ابتداء لدين الله ، الذي يجعل التحليل والتحريم (والتشريع كله) حقا خالصا لله ؛ وتجعل مزاولته من البشر ـ بغير ما أذن الله ـ كفرا .. بل زيادة في الكفر .. ومن ثم تزيل العقبة التي تحيك في بعض النفوس من استحلال رجب. وفي الوقت ذاته تقرر أصلا من أصول العقيدة الأساسية ؛ وهو قصر حق التشريع في الحل والحرمة على الله وحده. وتربط هذه الحقيقة بالحق الأصيل في بناء الكون كله ، يوم خلق الله السماوات والأرض. فتشريع الله للناس إنما هو فرع عن تشريعه للكون كله بما فيه هؤلاء الناس. والحيدة عنه مخالفة لأصل تكوين هذا الكون وبنائه ؛ فهو زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا (١) ..
وحقيقة أخرى تقررها هذه النصوص ، تتعلق بما سبق تقريره في المقطع السابق مباشرة ، من اعتبار أهل الكتاب مشركين ، وضمهم في العداوة والجهاد إلى المشركين. والأمر بقتالهم كافة .. المشركين وأهل الكتاب .. كما أنهم يقاتلون المسلمين كافة .. الأمر الذي يقرره الواقع التاريخي كله ؛ كما تقرره من قبل كلمات الله ـ سبحانه ـ وهي تعبر عن وحدة الهدف تماما بين المشركين وأهل الكتاب تجاه الإسلام والمسلمين ، وعن وحدة الصف التي تجمعهم كذلك عند ما تكون المعركة مع الإسلام والمسلمين ، مهما يكن بينهم هم من عداوات قبل ذلك وثارات واختلافات في تفصيلات العقيدة كذلك ، لا تقدم شيئا ولا تؤخر في تجمعهم جميعا في وجه الانطلاق الإسلامي ؛ وفي عملهم متجمعين لسحق الوجود الإسلامي.
وهذه الحقيقة الأخيرة الخاصة بأن أهل الكتاب مشركون كالمشركين ، وأن المشركين هؤلاء وهؤلاء يقاتلون المسلمين كافة فوجب على المسلمين أن يقاتلوهم كافة .. بالإضافة إلى الحقيقة الأولى : وهي أن النسيء زيادة في الكفر. لأنه مزاولة للتشريع بغير ما أنزل الله ، فهو كفر يضاف إلى الكفر الاعتقادي ويزيد فيه .. هاتان الحقيقتان هما المناسبة التي تربط هاتين الآيتين بما قبلهما وما بعدهما في السياق ؛ الذي يعالج المعوقات دون النفير العام ، والانطلاق الإسلامي تجاه المشركين وأهل الكتاب ..
* * *
(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ. ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ..
إن هذا النص القرآني يرد معيار الزمن ، وتحديد دورانه إلى طبيعة الكون التي فطرة الله عليها. وإلى أصل الخلقة. خلقة السماوات والأرض. ويشير إلى أن هناك دورة زمنية ثابتة ، مقسمة إلى اثني عشر شهرا. يستدل على ثباتها بثبات عدة الأشهر ؛ فلا تزيد في دورة وتنقص في دورة. وأن ذلك في كتاب الله ـ أي في ناموسه الذي أقام عليه نظام هذا الكون. فهي ثابتة على نظامها ، لا تتخلف ولا تتعرض للنقص والزيادة. لأنها تتم
__________________
(١) يراجع فصل «شريعة كونية» في كتاب : «معالم في الطريق» «دار الشروق».