وثانيها : أن يساهم في نفقات الدفاع عن نفسه وماله وعرضه وحرماته التي يكفلها الإسلام لأهل الذمة (الذين يؤدون الجزية فيصبحون في ذمة المسلمين وضمانتهم) ويدفع عنها من يريد الاعتداء عليها من الداخل أو من الخارج بالمجاهدين من المسلمين.
وثالثها : المساهمة في بيت مال المسلمين الذي يضمن الكفالة والإعاشة لكل عاجز عن العمل ، بما في ذلك أهل الذمة ، بلا تفرقة بينهم وبين المسلمين دافعي الزكاة.
ولا نحب أن نستطرد هنا إلى الخلافات الفقهية حول من تؤخذ منهم الجزية ومن لا تؤخذ منهم. ولا عن مقادير هذه الجزية. ولا عن طريق ربطها ومواضع هذا الربط .. ذلك أن هذه القضية برمتها ليست معروضة علينا اليوم ، كما كانت معروضة على عهود الفقهاء الذين أفتوا فيها واجتهدوا رأيهم في وقتها.
إنها قضية تعتبر اليوم «تاريخية» وليست «واقعية» .. إن المسلمين اليوم لا يجاهدون! .. ذلك أن المسلمين اليوم لا يوجدون! .. إن قضية «وجود» الإسلام ووجود المسلمين هي التي تحتاج اليوم إلى علاج!
والمنهج الإسلامي ـ كما قلنا من قبل مرارا ـ منهج واقعي جاد ؛ يأبى أن يناقش القضايا المعلقة في الفضاء ؛ ويرفض أن يتحول إلى مباحث فقهية لا تطبق في عالم الواقع ـ لأن الواقع لا يضم مجتمعا مسلما تحكمه شريعة الله ، ويصرّف حياته الفقه الإسلامي ـ ويحتقر الذين يشغلون أنفسهم ويشغلون الناس بمثل هذه المباحث في أقضية لا وجود لها بالفعل ؛ ويسميهم «الأرأيتيين» الذين يقولون : «أرأيت لو أن كذا وقع فما هو الحكم؟»
إن نقطة البدء الآن هي نقطة البدء في أول عهد الناس برسالة الإسلام .. أن يوجد في بقعة من الأرض ناس يدينون دين الحق ؛ فيشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله .. ومن ثم يدينون لله وحده بالحاكمية والسلطان والتشريع ؛ ويطبقون هذا في واقع الحياة .. ثم يحاولون أن ينطلقوا في الأرض بهذا الإعلان العام لتحرير الإنسان .. ويومئذ ـ ويومئذ فقط ـ سيكون هناك مجال لتطبيق النصوص القرآنية والأحكام الإسلامية في مجال العلاقات بين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات .. ويومئذ ـ ويومئذ فقط ـ يجوز الدخول في تلك المباحث الفقهية ، والاشتغال بصياغة الأحكام ، والتقنين للحالات الواقعة التي يواجهها الإسلام بالفعل ، لا في عالم النظريات!
وإذا كنا قد تعرضنا لتفسير هذه الآية ـ من ناحية الأصل والمبدأ ـ فإنما فعلنا هذا لأنها تتعلق بمسألة اعتقادية وترتبط بطبيعة المنهج الإسلامي. وعند هذا الحد نقف ، فلا نتطرق وراءه إلى المباحث الفقهية الفرعية احتراما لجدية المنهج الإسلامي وواقعيته وترفعه على هذا الهزال!
* * *
(وَقالَتِ الْيَهُودُ : عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ ؛ وَقالَتِ النَّصارى : الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ. ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ ، يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ. قاتَلَهُمُ اللهُ! أَنَّى يُؤْفَكُونَ؟) ..
لما أمر الله المسلمين بقتال أهل الكتاب (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) .. كانت هنالك ملابسات في واقع المجتمع المسلم في المدينة ـ تحدثنا عنها في تقديم السورة وتقديم المقطع الأول منها ـ تدعو إلى توكيد هذا الأمر وتقويته ؛ وجلاء الأسباب والعوامل التي تحتمه ؛ وإزالة الشبهات والمعوقات التي تحيك في بعض النفوس تجاهه. وبخاصة أن طاعة هذا الأمر كانت تقتضي مواجهة الروم في أطراف الشام. والروم كانوا مرهوبين من العرب قبل الإسلام ؛ وكانوا مسيطرين على شمال الجزيرة لفترة طويلة ؛ ولهم أعوان من القبائل