ولقد سبق قضاء الله بأن يغفر لأهل بدر ما يفعلون ؛ فوقاهم سبق قضائه فيهم ما كان يستحقه أخذهم الفداء من العذاب العظيم!
ثم زادهم الله فضلا ومنه ؛ فجعل غنائم الحرب حلالا لهم ـ ومنها هذه الفدية التي عوتبوا فيها ـ وكانت محرمة في الديانات قبلهم على أتباع الرسل ـ مذكرا إياهم بتقوى الله ، وهو يذكر لهم رحمته ومغفرته ، لتتوازن مشاعرهم تجاه ربهم ، فلا تغرهم المغفرة والرحمة ، ولا تنسيهم التقوى والتحرج والمخافة :
(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً ، وَاتَّقُوا اللهَ ، إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ..
ثم يلمس قلوب الأسرى لمسة تحيي فيها الرجاء ، وتطلق فيها الأمل ، وتشيع فيها النور ، وتعلقها بمستقبل خير من الماضي ، وبحياة أكرم مما كانوا فيه ، وبكسب أرجح مما فقدوا من مال وديار. وبعد ذلك كله بالمغفرة والرحمة من الله :
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى : إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ..
هذا الخير كله معلق بأن تصلح قلوبهم فتتفتح لنور الإيمان ؛ فيعلم الله أن فيها خيرا .. والخير هو الإيمان حتى ما يحتاج إلى ذكر وتنصيص. الخير محض الخير ، والذي لا يسمى شيء ما خيرا إلا أن يستمد منه وينبثق منه ويقوم عليه.
إن الإسلام إنما يستبقي الأسرى لديه ، ليلمس في قلوبهم مكامن الخير والرجاء والصلاح ، وليوقظ في فطرتهم أجهزة الاستقبال والتلقي والتأثر والاستجابة للهدى. لا ليستذلهم انتقاما ، ولا ليسخرهم استغلالا ؛ كما كانت تتجه فتوحات الرومان ؛ وكما تتجه فتوحات الأجناس والأقوام!
عن الزهري عن جماعة سماهم قال : بعثت قريش في فداء أسراهم ، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا. وقال العباس : يا رسول الله قد كنت مسلما! فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : الله أعلم بإسلامك ، فإن تكن كما تقول فإن الله يجزيك ، وأما ظاهرك فقد كان علينا ، فافتد نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث ابن عبد المطلب ، وعقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب ، وحليفك عتبة بن عمرو أخي بني الحارث بن فهر» : قال : ما ذاك عندي يا رسول الله! قال : «فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل ، قلت لها : إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي دفنته لبني الفضل وعبد الله وقثم؟». قال : «والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله. إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل. فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني ـ عشرين أوقية من مال كان معي! ـ فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ : «لا. ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك». ففدى نفسه وبني أخويه وحليفه. فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ، وَيَغْفِرْ لَكُمْ ، وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .. قال العباس : فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبدا كلهم في يده مال يضرب به ، مع ما أرجو من مغفرة الله عزوجل.
وفي الوقت الذي يفتح الله للأسارى نافذة الرجاء المشرق الرحيم ، يحذرهم خيانة الرسول ـ صلىاللهعليهوسلم ـ كما خانوا الله من قبل فلاقوا هذا المصير :
(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) ..