فقسمه رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ بين المسلمين عن بواء ، يقول : على السواء.
قال ابن إسحاق : وحدثني نبيه بن وهب أخو بني عبد الدار أن رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ حين أقبل بالأسارى ، فرقهم في أصحابه ، وقال : استوصوا بالأسارى خيرا». فكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم ، أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه ، في الأسارى. قال : فقال أبو عزيز : مربي أخي مصعب بن عمير ، ورجل من الأنصار يأسرني ، فقال : شد يدك به ، فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك. قال : وكنت في رهط من الأنصار ـ حين أقبلوا بي من بدر ـ فكانوا إذا قدموا غداءهم أو عشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر ، لوصية رسول الله صلىاللهعليهوسلم إياهم بنا ، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها. قال : فأستحيي فأردها على أحدهم ، فيردها علي ما يمسها.
قال ابن هشام : وكان أبو عزيز صاحب لواء المشركين ببدر ، بعد النضر بن الحارث ، فلما قال أخوه مصعب ابن عمير لأبي اليسر ـ وهو الذي أسره ـ ما قال ، قال له أبو عزيز : يا أخي ، هذه وصاتك بي؟ فقال له مصعب : إنه أخي دونك .. فسألت أمه عن أغلى ما فدي به قرشي ، فقيل لها : أربعة آلاف درهم ، فبعثت بأربعة آلاف درهم ، ففدته بها.
قال ابن إسحاق : ثم بعثت قريش في فداء الأسرى.
* * *
في هذه الغزوة التي أجملنا عرضها بقدر المستطاع ، نزلت سورة الأنفال .. نزلت تعرض وقائع الغزوة الظاهرة ، وتعرض وراءها فعل القدرة المدبرة ، وتكشف عن قدر الله وتدبيره في وقائع الغزوة ، وفيما وراءها من خط سير التاريخ البشري كله ؛ وتحدث عن هذا كله بلغة القرآن الفريدة وبأسلوب القرآن المعجز .. وسيأتي تفصيل هذه المعاني في ثنايا استعراض النصوص القرآنية .. فأما الآن فنكتفي باستعراض الخطوط الأساسية في السورة :
إن هنالك حادثا بعينه في الغزوة يلقي ضوءا على خط سيرها. ذلك هو ما رواه ابن إسحاق ـ عن عبادة ابن الصامت ـ رضي الله عنه ، قال :
«فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فقسمه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ عن بواء (يقول : على السواء).
هذا الحادث يلقي ضوءا على افتتاح السورة وعلى خط سيرها كذلك :
لقد اختلفوا على الغنائم القليلة في الواقعة التي جعلها الله فرقانا في مجرى التاريخ البشري إلى يوم القيامة!
ولقد أراد الله ـ سبحانه ـ أن يعلمهم ، وأن يعلم البشر كلهم من بعدهم أمورا عظاما ...
أراد أن يعلمهم ابتداء أن أمر هذه الوقعة أكبر كثيرا من أمر الغنائم التي يختلفون عليها. فسمى يومها : (يَوْمَ الْفُرْقانِ ، يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) ..
وأراد أن يعلمهم أن هذا الأمر العظيم إنما تم بتدبير الله وقدره ، في كل خطوة وفي كل حركة ، ليقضي من ورائه أمرا أراده ، فلم يكن لهم في هذا النصر وما وراءه من عظائم الأمور يد ولا تدبير ، وسواء غنائمه الصغيرة وآثاره الكبيرة ، فكلها من فعل الله وتدبيره. إنما أبلاهم فيه بلاء حسنا من فضله!
وأراد أن يريهم مدى الفرق بين ما أرادوه هم لأنفسهم من الظفر بالعير ؛ وما أراده الله لهم ، وللبشرية